ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] فَهَذَا فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى أَمْرِ إِضْرَارٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا يَفْعَلُهُ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ، وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ "
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: " ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] قَالَ: الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ " وَقَالَ آخَرُونَ: اللَّغْوُ مِنَ الْأَيْمَانِ: هُوَ مَا حَنِثَ فِيهِ الْحَالِفُ نَاسِيًا
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: " هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَاهُ؛ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ كَلَامٍ كَانَ مَذْمُومًا، وَفِعْلًا لَا مَعْنَى لَهُ مَهْجُورًا، يُقَالُ مِنْهُ: لَغَا فُلَانٌ فِي كَلَامِهِ يَلْغُو لَغْوًا: إِذَا قَالَ قَبِيحًا مِنَ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]-[٣٤]- وَمَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ لَغَيْتُ بِاسْمِ فُلَانٍ، بِمَعْنَى أُولِعْتُ بِذِكْرِهِ بِالْقَبِيحِ. فَمَنْ قَالَ لَغَيْتُ، قَالَ أَلْغَى لَغًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
وَرُبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا، وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
فَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ مَا وَصَفْتُ، وَكَانَ الْحَالِفُ بِاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَقَدْ فَعَلَ؛ وَلَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَمَا فَعَلَ، وَاصِلًا بِذَلِكَ كَلَامَهُ عَلَى سَبِيلِ سُبُوقِ لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدِ إِثْمٍ فِي يَمِينِهِ، وَلَكِنْ لِعَادَةٍ قَدْ جَرَتْ لَهُ عِنْدَ عَجَلَةِ الْكَلَامِ، وَالْقَائِلُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لِفُلَانٌ وَهُوَ يَرَاهُ كَمَا قَالَ، أَوْ وَاللَّهِ مَا هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ يَرَاهُ لَيْسَ بِهِ، وَالْقَائِلُ: لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَاللَّهِ، أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَاللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَجَلَةِ الْكَلَامِ، وَسُبُوقِ اللِّسَانِ لِلْعَادَةِ، عَلَى غَيْرِ تَعَمُّدِ حَلِفٍ عَلَى بَاطِلٍ، وَالْقَائِلُ هُوَ مُشْرِكٌ أَوْ هُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا، أَوْ إِنْ فَعَلَ كَذَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى كُفْرٍ، أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ؛ جَمِيعُهُمْ قَائِلُونَ هُجْرًا مِنَ الْقَوْلِ، وَذَمِيمًا مِنَ الْمِنْطَقِ، وَحَالِفُونَ مِنَ الْأَيْمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَمْ تَتَعَمَّدْ فِيهِ الْإِثْمُ قُلُوبُهُمْ. كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُمْ لُغَاةٌ فِي أَيْمَانِهِمْ لَا تَلْزَمُهُمُ كَفَّارَةٌ فِي الْعَاجِلِ، وَلَا عُقُوبَةٌ فِي الْآجِلِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخِذِ عِبَادَهُ بِمَا لَغَوْا مِنْ أَيْمَانِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي هُوَ مُؤَاخِذِهُمْ بِهِ مَا تَعَمَّدَتْ فِيهِ الْإِثْمَ قُلُوبُهُمْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِإِتْيَانِ الْحَالِفِ مَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مَعَ وُجُوبِ إِتْيَانِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنَ -[٣٥]- الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ، وَكَانَتِ الْغَرَامَةُ فِي الْمَالِ، أَوْ إِلْزَامُ الْجَزَاءِ مِنَ الْمَجْزِيِّ أَبْدَالُ الْجَازِينَ، لَا شَكَّ عُقُوبَةٌ كَبَعْضِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَكَالًا لِخَلْقِهِ فِيمَا تَعَدَّوْا مِنْ حُدُودِهِ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهَا أَنَّهَا تَمْحِيصٌ، وَكَفَّارَاتٌ لِمَنْ عُوقِبَ بِهَا فِيمَا عُوقِبُوا عَلَيْهِ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ مَنْ أُلْزِمَ الْكَفَّارَةَ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ فِيمَا حَلَفَ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ فَحَنِثَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ فَقَدْ وَأَخَذَهُ اللَّهُ بِهَا بِإِلْزَامِهِ إِيَّاهُ الْكَفَّارَةَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَا عَجَّلَ مِنْ عُقُوبَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ مُسْقِطًا عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فِي أَجَلِهِ. وَإِذْ كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ وَاخَذَهُ بِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَقَدْ وَاخَذَهُ بِهَا هِيَ مِنَ اللَّغْوِ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَائِلُهُ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، فَبَيَّنَ فَسَادَ الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: " اللَّغْوُ: الْحَلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَالِفِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَفَّارَةٌ بِحِنْثِهِ فِي يَمِينِهِ " وَفِي إِيجَابِ سَعِيدٍ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا بِهَا مُؤَاخَذٌ لِمَا وَصَفْنَا: مِنْ أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ فِي يَمِينِهِ؛ فَلَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا. فَإِذَا كَانَ اللَّغْوُ هُوَ مَا وَصَفْنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخِذِنَا بِهِ، وَكُلُّ يَمِينٍ لَزِمَتْ صَاحِبَهَا بِحِنْثِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ فِي الْعَاجِلِ، أَوْ أَوْعَدَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ صَاحِبَهَا الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا فِي الْآجِلِ، وَإِنْ كَانَ وَضَعَ عَنْهُ كَفَّارَتَهَا فِي الْعَاجِلِ، فَهِيَ مِمَّا كَسَبَتْهُ قُلُوبُ الْحَالِفِينَ، وَتَعَمَّدَتْ فِيهِ الْإِثْمَ نُفُوسُ الْمُقْسِمِينَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ اللَّغْوُ -[٣٦]- وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: لَا تَجْعَلُوا اللَّهً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، وَحُجَّةً لِأَنْفُسِكُمْ فِي أَقْسَامِكُمْ فِي أَنْ لَا تَبَرُّوا، وَلَا تَتَّقُوا، وَلَا تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا لَغَتْهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، فَنَطَقَتْ بِهِ مِنْ قَبِيحِ الْأَيْمَانِ وَذَمِيمِهَا، عَلَى غَيْرِ تَعَمُّدِكُمُ الْإِثْمَ وَقَصْدِكُمْ بِعَزَائِمِ صُدُورِكُمْ إِلَى إِيجَابِ عَقْدِ الْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفْتُمْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ عَقْدَ الْيَمِينِ وَإِيجَابِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَعَزَمْتُمْ عَلَى الْإِتْمَامِ عَلَى مَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ بِقَصْدٍ مِنْكُمْ وَإِرَادَةٍ، فَيَلْزَمُكُمْ حِينَئِذٍ إِمَّا كَفَّارَةٌ فِي الْعَاجِلِ، وَإِمَّا عُقُوبَةٌ فِي الْآجِلِ