حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «وَذَلِكَ لَمَّا دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَعْطَى أَهْلُ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ» وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا فِي الدِّينِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمُ، فَاسْتَأْذَنَ اللَّهَ فِي قِتَالِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ» وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي خَاصٍّ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَالْمَجُوسُ، وَكُلُّ مَنْ جَاءَ إِقْرَارُهُ عَلَى دِينِهِ الْمُخَالِفِ دَيْنَ الْحَقِّ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَنْسُوخًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ لِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِنَا كِتَابِ «اللَّطِيفُ مِنَ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ» مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ غَيْرُ كَائِنٍ نَاسِخًا إِلَّا مَا نَفَى -[٥٥٤]- حُكْمَ الْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يُجْزَ اجْتِمَاعُهُمَا، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَبَاطِنُهُ الْخُصُوصَ، فَهُوَ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ بِمَعْزِلٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يُقَالَ: لَا إِكْرَاهَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا قَدْ نَقَلُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَوْمًا، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ إِنِ امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ كعَبْدةِ الْأَوْثَانِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَكَالْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ دَيْنِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَأَنَّهُ تَرَكَ إِكْرَاهَ آخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِقَبُولِهِ الْجِزْيَةَ مِنْهُ، وَإِقْرَارِهِ عَلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ كَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] إِنَّمَا هُوَ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ حَلَّ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِأَدَائِهِ الْجِزْيَةَ، وَرِضَاهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةُ الْحُكْمِ بِالْإِذْنِ بِالْمُحَارَبَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ وَعَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ: مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرَادُوا أَنْ يُكْرِهُوا أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَنْزِلُ فِي خَاصٍّ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ يَكُونُ حُكْمُهَا عَامًّا فِي كُلِّ مَا جَانَسَ الْمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، فَالَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا كَانُوا قَوْمًا دَانُوا بِدِينِ أَهْلِ التَّوْرَاةِ قَبْلَ ثُبُوتِ عَقْدِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْزَلَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ آيَةً يَعُمَّ حُكْمُهَا كُلَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ. -[٥٥٥]- وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفًا لِلدِّينِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُدْخِلَتَا عَقِيبًا مِنَ الْهَاءِ الْمَنْوِيَّةِ فِي الدِّينِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لَا إِكْرَاهَ فِي دِينِهِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي


الصفحة التالية
Icon