فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ الْقَوْمِ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِمَرْيَمَ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِبُشْرَى مِنْ عِنْدِهِ هِيَ وَلَدٌ لَكِ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، هُوَ قَوْلُهُ: «كُنْ»
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] قَالَ: قَوْلُهُ «كُنْ» فَسَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلِمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ كَلِمَتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَا قَدَّرَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ: هَذَا قَدَرُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ، يَعْنِي بِهِ: هَذَا عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ حَدَثَ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [النساء: ٤٧] يَعْنِي بِهِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ الَّذِي كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ اسْمٌ لِعِيسَى سَمَّاهُ اللَّهُ بِهَا كَمَا سَمَّى سَائِرَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهِ قَالَ: الْكَلِمَةِ: هِيَ عِيسَى
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] قَالَ: «عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ» وَأَقْرَبُ الْوُجُوهِ إِلَى الصَّوَابِ عِنْدِي الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِعِيسَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ وَكَلِمَتِهِ الَّتِي أَمَرَهَا أَنْ تُلْقِيَهَا إِلَيْهَا أَنَّ -[٤٠٨]- اللَّهَ خَالِقٌ مِنْهَا وَلَدًا مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ وَلَا فَحْلٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ [آل عمران: ٤٥] فَذَكَرَ، وَلَمْ يَقُلِ: اسْمُهَا، فَيُؤَنَّثُ وَالْكَلِمَةُ مُؤَنَّثَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَا قَصْدُ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى فُلَانٍ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْبِشَارَةِ، فَذُكِرَتْ كِنَايَتُهَا كَمَا تُذْكَرُ كِنَايَةُ الذُّرِّيَّةِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَلْقَابِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ قَبْلُ فِيمَا مَضَى. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، مِنْ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِبُشْرَى، ثُمَّ بَيَّنَ عَنِ الْبُشْرَى، أَنَّهَا وَلَدٌ اسْمُهُ الْمَسِيحُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فَقَالَ: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ [آل عمران: ٤٥] وَقَدْ قَالَ: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُ: هِيَ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾ [الزمر: ٥٩] وَكَمَا يُقَالُ: ذُو الثُّدَيَّةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ قَصِيرَةً قُرَيْبَةً مِنْ ثَدْيَيْهِ فَجَعَلَهَا كَأَنَّ اسْمَهَا ثَدْيَةٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلِ الْهَاءُ فِي التَّصْغِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ نَحْوَ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ، فِي أَنَّ الْهَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْكَلِمَةِ، وَخَالَفَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ذَكَرَ قَوْلَهُ ﴿اسْمُهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] وَالْكَلِمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ قَبْلَهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ اسْمُهُ، وَقَدْ قُدِّمَتِ الْكَلِمَةُ، وَلَمْ يَقُلْ اسْمَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَلْقَابِ وَالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تُوضَعْ لِتَعْرِيفِ الْمُسَمَّى بِهِ كِفْلَانٍ وَفُلَانٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ الذُّرِّيَّةِ وَالْخَلِيفَةِ وَالدَّابَّةِ، وَلِذَلِكَ جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يُقَالَ: ذُرِّيَّةً طَيَّبَةً، وَذُرِّيَّةً طَيِّبًا؛ وَلَمْ -[٤٠٩]- يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: طَلْحَةُ أَقْبَلَتْ، وَمُغِيرَةُ قَامَتْ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ اعْتِلَالَ مَنِ اعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِذِي الثُّدَيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْهَاءُ فِي ذِي الثُّدَيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْقِطْعَةُ مِنَ الثَّدْيِ، كَمَا قِيلَ: كُنَّا فِي لَحْمَةٍ وَنَبِيذَةٍ، يُرَادُ بِهِ الْقِطْعَةُ مِنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَحْوَ قَوْلِنَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٥] فَإِنَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ أَنْبَأَ عِبَادَهُ عَنْ نِسْبَةِ عِيسَى، وَأَنَّهُ ابْنُ أُمِّهِ مَرْيَمَ، وَنَفَى بِذَلِكَ عَنْهُ مَا أَضَافَ إِلَيْهِ الْمُلْحِدُونَ فِي اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ مِنَ النَّصَارَى، مِنْ إِضَافَتِهِمْ بُنَوَّتَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا قُذِفَتْ أُمُّهُ بِهِ الْمُفْتَرِيَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْيَهُودِ