حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: ٨٦] قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ؛ كَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ، وَيَسْتَفْتُحِوُنَ بِهِ، فَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ مَا قَالَ الْحَسَنُ، مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْنِيُّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى مَا قَالَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَخْبَارَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ أَكْثَرُ، وَالْقَائِلِينَ بِهِ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِسَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَجَمَعَ قِصَّتَهُمْ وَقِصَّةَ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَهُمْ فِي ارْتِدَادِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادَهُ سُنَّتَهُ فِيهِمْ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، ثُمَّ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ أَنْ بُعِثَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَهُوَ حَيُّ عَنْ إِسْلَامِهِ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْآيَةِ جَمِيعُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَانَ بِمِثْلِ مَعْنَاهُمَا، بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ [آل عمران: ٨٦] يَعْنِي: كَيْفَ يُرْشِدُ اللَّهُ لِلصَّوَابِ، وَيُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ قَوْمًا جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ -[٥٦٢]- إِيمَانِهِمْ: أَيْ بَعْدَ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِقْرَارِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ﴿وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ [آل عمران: ٨٦] يَقُولُ: وَبَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَلْقِهِ حَقًّا ﴿وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: ٨٦] يَعْنِي: وَجَاءَهُمُ الْحُجَجُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ٨٦] يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ الْجَمَاعَةَ الظَّلَمَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَاخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ﴾ [آل عمران: ٨٧] يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ [آل عمران: ٨٧] ثَوَابُهُمْ مِنْ عَمَلِهِمُ الَّذِي عَمِلُوهُ ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٨٧] يَعْنِي أَنْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ الْإِقْصَاءُ وَالْبُعْدُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِلَّا مِمَّا يَسُوءُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ [آل عمران: ٨٧] يَعْنِي مِنْ جَمِيعِهِمْ: لَا بَعْضَ مَنْ سَمَّاهُ جَلَّ ثناؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ، وَلَكِنْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ بِاللَّهِ كُفْرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ لَعْنَةِ النَّاسِ الْكَافِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ -[٥٦٣]- ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [آل عمران: ٨٨] يَعْنِي: مَاكِثِينَ فِيهَا، يَعْنِي: فِي عُقُوبَةِ اللَّهِ ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ [البقرة: ١٦٢] لَا يُنْقَصُونَ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَا يُنَفَّسُونَ فِيهِ. ﴿وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [البقرة: ١٦٢] يَعْنِي: وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ: أَعْنِي الْخُلُودَ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [آل عمران: ٨٩] ثُمَّ اسْتَثْنَى جَلَّ ثناؤُهُ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ [آل عمران: ٨٩] يَعْنِي: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ارْتِدَادِهِمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ، فَرَاجَعُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ [آل عمران: ٨٩] يَعْنِي: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٩٢] يَعْنِي فَإِنَّ اللَّهَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ كُفْرِهِ ﴿غَفُورٌ﴾ [آل عمران: ٨٩] يَعْنِي: سَاتِرٌ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ مِنَ الرِّدَّةِ، فَتَارِكٌ عُقُوبَتَهُ عَلَيْهِ، وَفَضِيحَتَهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، غَيْرَ مُؤَاخِذِهِ بِهِ إِذَا مَاتَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ، ﴿رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٨٩] مُتَعَطِّفٌ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ