كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] «فَانْكِحُوا النِّسَاءَ نِكَاحًا طَيِّبًا» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. فَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٣] الْفِعْلُ دُونَ أَعْيَانِ النِّسَاءِ وَأَشْخَاصِهِنَّ، فَلِذَلِكَ قِيلَ «مَا» وَلَمْ يَقُلْ «مَنْ»، كَمَا يُقَالُ: خُذْ مِنْ رَقِيقِي مَا أَرَدْتَ إِذَا عَنَيْتَ خُذْ مِنْهُمْ إِرَادَتَكَ، وَلَوْ أَرَدْتَ خُذِ الَّذِي تُرِيدُ مِنْهُمْ لَقُلْتَ: خُذْ رَقِيقِي مَنْ أَرَدْتَ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: ٣] بِمَعْنَى: أَوْ مَلَكَ أَيْمَانُكُمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ -[٣٧١]- وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] فَلْيَنْكِحْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، كَمَا قِيلَ: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] فَإِنَّمَا تُرِكَ إِجْرَاؤُهُنَّ لِأَنَّهُنَّ مَعْدُولَاتٌ عَنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ، كَمَا عُدِلَ عُمَرُ عَنْ عَامِرٍ وَزُفَرُ عَنْ زَافِرٍ فَتُرِكَ إِجْرَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ أُحَادُ وَثَنَاءُ وَمَوْحَدُ وَمَثْنَى وَمْثَلَثُ وَمْرَبَعُ، لَا يَجْرِي ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ وُجُوهِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، مَا قِيلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ فَاطِرٍ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، يُرَادُ بِهِ الْجَنَاحُ، وَالْجَنَاحُ ذَكَرٌ، وَأَنَّهُ أَيْضًا لَا يُضَافُ إِلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلَاثُ، وَأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا تَدْخُلُهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْعَدَدِ مَعْرِفَةٌ، وَلَوْ كَانَ نَكِرَةً لَدَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأُضِيفَ كَمَا يُضَافُ الثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ تَمِيمِ بْنِ أَبِي مُقْبِلٍ:
[البحر الطويل]
-[٣٧٢]- تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ | أُحَادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ |
فَرَدَّ أُحَادَ وَمَثْنَى عَلَى النُّعَرَاتِ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، وَقَدْ تَجْعَلُهَا الْعَرَبُ نَكِرَةً فَتُجْرِيهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
قَتَلْنَا بِهِ مِنْ بَيْنِ مَثْنَى وَمَوْحَدٍ | بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ وَآخَرَ خَامِسِ |
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ثَنَاءَ وَأُحَادَ غَيْرُ جَارِيَةٍ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الكامل]
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُنَاءَ وَمَوْحَدًا | وَتَرَكْتُ مُرَّةَ مِثْلَ أَمْسِ الدَّابِرِ |
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
-[٣٧٣]- مَنَتْ لَكَ أَنْ تُلَاقِيَنِي الْمَنَايَا | أُحَادَ أُحَادَ فِي شَهْرٍ حَلَالِ |
وَلَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ صَرْفُ مَا جَاوَزَ الرُّبَاعَ وَالْمَرْبَعَ عَنْ جِهَتِهِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهَا خُمَاسٌ وَلَا الَمْخَمَسُ، وَلَا السِّبَاعُ وَلَا الْمَسْبَعُ وَكَذَلِكَ مَا فَوْقَ الرُّبَاعِ، إِلَّا فِي بَيْتٍ لِلْكُمَيْتِ، فَإِنَّهُ يُرْوَى لَهُ فِي الْعَشْرَةِ عُشَارٌ وَهُوَ قَوْلُهُ:
[البحر المتقارب]
فَلَمْ يَسْتَرْيِثُوكَ حَتَّى رَمَيْ | تَ فَوْقَ الرِّجَالِ خِصَالًا عُشَارَا |
يُرِيدُ عَشْرًا عَشْرًا، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: ٣] فَإِنَّ نَصْبَ وَاحِدَةٍ، بِمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فِيمَا يَلْزَمُكُمْ مِنَ الْعَدْلِ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَكُمْ بِنِكَاحٍ فِيمَا أَوْجَبُهُ اللَّهُ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ، فَانْكِحُوا وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ بِالرَّفْعِ كَانَ جَائِزًا بِمَعْنَى: فَوَاحِدَةٌ كَافِيَةٌ، أَوْ فَوَاحِدَةٌ مُجْزِئَةٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ:
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحَلَالَ لَكُمْ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ نِكَاحُ أَرْبَعٍ، فَكَيْفَ قِيلَ:
﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] وَذَلِكَ فِي الْعَدَدِ تِسْعٌ؟ قِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، إِمَّا مَثْنَى إِنْ أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِيمَا يَجِبُ لَهُمَا عَلَيْكُمْ؛ وَإِمَّا ثَلَاثٌ إِنْ لَمْ تَخَافُوا -[٣٧٤]- ذَلِكَ؛ وَإِمَّا أَرْبَعٌ إِنْ أَمِنْتُمْ ذَلِكَ فِيهِنَّ، يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: ٣] لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فِي الثِّنْتَيْنِ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا أَيْضًا فِي الْوَاحِدَةِ، فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ حَتَّى تَقُومَ حُجَّةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّأْدِيبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْإِعْلَامِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] وَذَلِكَ أَمْرٌ، فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِيجَابِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: ٣] فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:
﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى النَّهْي عَنْ نِكَاحِ مَا خَافَ النَّاكِحُ الْجَوْرَ فِيهِ مِنْ عَدَدِ النِّسَاءِ، لَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَتَحَرَّجْتُمْ فِيهِنَّ، فَكَذَلِكَ فَتَحَرَّجُوا فِي النِّسَاءِ، فَلَا تَنْكِحُوا إِلَّا مَا أَمِنْتُمُ الْجَوْرَ فِيهِ مِنْهُنَّ، مَا أَحْلَلْتُهُ لَكُمْ مِنَ الْوَاحِدَةِ إِلَى الْأَرْبَعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَنَّ الْعَرَبَ تُخْرِجُ الْكَلَامَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهَا فِيهِ النَّهْي أَوِ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثناؤُهُ:
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكَفِّرْ﴾ [الكهف: ٢٩] وَكَمَا قَالَ:
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٥٥] فَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَالزَّجْرُ وَالنَّهْي، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ -[٣٧٥]-:
﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] بِمَعْنَى النَّهْي، فَلَا تَنْكِحُوا إِلَّا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. وَعَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: ٣] قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ