حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] قَالَ: «الدُّنْيَا كُلُّهَا جَهَالَةٌ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهَا: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ، وَعَمَلُهُمُ السُّوءَ هُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي جَهِلُوهَا عَامِدِينَ كَانُوا لِلْإِثْمِ، أَوْ جَاهِلِينَ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الْعَامِدِ لِلشَّيْءِ الْجَاهِلَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُ جَاهِلٌ بِقَدْرِ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتِهِ، فَيُقَالُ: هُوَ بِهِ جَاهِلٌ، عَلَى مَعْنَى جَهِلِهِ بِمَعْنَى نَفْعِهِ وَضُرِّهِ؛ فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِقَدْرِ مَبْلَغِ نَفْعِهِ وَضُرِّهِ قَاصِدًا إِلَيْهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ إِلَيْهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ عِنْدَ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ، أَوْ يَعْلَمُهُ فَيُشْبِهُ فَاعِلَهُ، إِذْ كَانَ خَطَأً مَا فَعَلَهُ بِالْجَاهِلِ الَّذِي يَأْتِي الْأَمْرَ وَهُوَ بِهِ جَاهِلٌ فَيُخْطِئُ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ مِنْهُ، فَيُقَالَ: إِنَّهُ لَجَاهِلٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَالِمًا لِإِتْيَانِهِ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يَأْتِي مِثْلَهُ إِلَّا أَهْلُ الْجَهْلِ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] قِيلَ فِيهِمْ: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ وَإِنْ أَتَوْهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِمَبْلَغِ عِقَابِ اللَّهِ أَهْلَهُ، عَامِدِينَ إِتْيَانَهُ، مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَأْتِي مِثْلَهُ إِلَّا مَنْ -[٥١١]- جَهِلَ عَظِيمَ عِقَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ أَهْلَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لِمَنْ أَتَاهُ وَهُوَ بِهِ عَالِمٌ: أَتَاهُ بِجَهَالَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْجُهَّالِ بِهِ، لَا أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ جَهِلُوا كُنْهَ مَا فِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَمْ يَعْلَمُوهُ كَعِلْمِ الْعَالِمِ، وَإِنْ عَلِمُوهُ ذَنْبًا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَةٌ لِمَنْ عَلِمَ كُنْهَ مَا فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثناؤُهُ قَالَ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء: ١٧] دُونَ غَيْرِهِمْ. فَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَالِمِ الَّذِي عَمِلَ سُوءًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِكُنْهِ مَا فِيهِ ثُمَّ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ تَوْبَةً، وَذَلِكَ خِلَافُ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ كُلَّ تَائِبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ: «بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»، وَخِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الفرقان: ٧٠]


الصفحة التالية
Icon