ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣] قَالَ: «هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا حَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِأُمُورٍ مِنْ أُمُورِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٨٣] خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْإِحَاطَةِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنَ الضَّلَالَةِ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٨٣] دَلِيلًا عَلَى الْإِحَاطَةِ. وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ فِي مَدْحِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ:
[البحر الطويل]

-[٢٦٥]- أَشُمَّ كَثِيرُ يَدِيِّ النَّوَالِ قَلِيلُ الْمَثَالِبِ وَالْقَادِحَةِ
قَالُوا: فَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ وَصْفُ الْمَمْدُوحِ بِأَنَّ فِيهِ الْمَثَالِبَ وَالْمَعَايِبَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا مَثَالِبَ فِيهِ وَلَا مَعَايِبَ؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ رَجُلًا بِأَنَّ فِيهِ مَعَايِبَ وَإِنْ وَصَفَ الَّذِي فِيهِ الْمَعَايِبَ بِالْقِلَّةِ، فَإِنَّمَا ذَمَّهُ وَلَمْ يَمْدَحْهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ نَفْيِ جَمِيعِ الْمَعَايِبِ عَنْهُ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣] إِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَاتَّبَعْتُمْ جَمِيعَكُمُ الشَّيْطَانَ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِاسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنَ الْإِذَاعَةِ؛ وَقَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ [النساء: ٨٣] لِأَنَّ مَنْ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ تُبَّاعِ الشَّيْطَانِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَحْمِلَ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ الْأَغْلَبِ الْمَفْهُومِ بِالظَّاهِرِ مِنَ الْخَطَّابِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ فَنُوَجِّهُهُ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ جَمِيعًا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٨٣] دَلِيلٌ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِالْجَمِيعِ. هَذَا مَعَ -[٢٦٦]- خُرُوجِهِ مِنْ تَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ لَا وَجْهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِذَا رُدَّ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْهُمْ بَعْدَ وُضُوحِهِ لَهُمْ، اسْتَوَى فِي عِلْمِ ذَلِكَ كُلُّ مُسْتَنْبِطٍ حَقِيقَةً، فَلَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمُسْتَنْبِطِينَ مِنْهُمْ وَخُصُوصِ بَعْضِهِمْ بِعِلْمِهِ مَعَ اسْتِوَاءِ جَمِيعِهِمْ فِي عِلْمِهِ. وَإِذْ كَانَ لَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا قُلْنَا، وَدَخَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ مَا بَيَّنَّا مِنَ الْخَلَلِ، فَبَيِّنٌ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُوَ الرَّابِعُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَضَيْنَا لَهُ بِالصَّوَابِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْإِذَاعَةِ.


الصفحة التالية
Icon