خَاصَمَ عَنِ الْخَائِنِ، وَلَكِنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا هَمَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ». وَذُكِرَ أَنَّ الْخَائِنِينَ الَّذِينَ عَاتَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصُومَتِهِ عَنْهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلَ فِي خِيَانَتِهِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُ فَوَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ سَرِقَةً سَرَقَهَا
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ وَدِرْعِهِ مِنْ حَدِيدٍ الَّتِي سَرَقَ، وَقَالَ أَصْحَابُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلنَّبِيِّ: اعْذُرْهُ فِي النَّاسِ بِلِسَانِكَ. ورَمَوْا بِالدِّرْعِ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ بَرِيئًا " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، -[٤٥٩]- قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالَ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ: بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحِلُهُ إِلَى بَعْضِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلَّا هَذَا الْخَبِيثُ، فَقَالَ:
[البحر الكامل]
أَوَكُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً | أَضِمُوا وَقَالُوا ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا |
قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ بِالدَّرْمَكِ ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ، فَخَصَّ بِهِ نَفْسَهُ، فَأَمَّا الْعِيَالُ: فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ. فقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنَ الشَّامِ، فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ، فَجَعَلَهُ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، وَفِي الْمَشْرُبَةِ سِلَاحٌ لَهُ: دِرْعَانِ وَسَيْفَاهُمَا وَمَا يُصْلِحُهُمَا. فعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ، فَنُقِبَتِ الْمَشْرُبَةُ، وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. -[٤٦٠]- فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، فَذُهِبَ بِسِلَاحِنَا وَطَعَامِنَا. قَالَ: فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَاهُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيدَ بْنَ سَهْمٍ، رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، ثُمَّ أَتَى بَنِي أُبَيْرِقٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ. قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا. فسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلُ جَفَاءٍ، عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ فَنَقَبُوا مَشْرُبَةً لَهُ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدُوا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ يَرْمُونَهُمْ -[٤٦١]- بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ:
«عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ تَرْمِيهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ» قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فأَتَيْتُ عَمِّي رِفَاعَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥] يَعْنِي: بَنِي أُبَيْرِقٍ
﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ [النساء: ١٠٦] أَيْ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٧] أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾ [النساء: ١٠٧] إِلَى قَوْلِهِ:
﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١١٠] أَيْ أَنَّهُمْ إِنِ يَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يَغْفِرْ لَهُمْ
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾ [النساء: ١١١] وَإِثْمًا مًبِينًا قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ [النساء: ١١٣] يَعْنِي أُسَيْرًا وَأَصْحَابَهُ
﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: ١١٣] إِلَى قَوْلِهِ:
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٧٤] فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّلَاحِ، فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، -[٤٦٢]- وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا؛ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بَشِيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سَهْلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ﴾ [النساء: ١١٥] الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ:
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا﴾ [النساء: ١١٦] بَعِيدًا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ رَمَاهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعِتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَمَتْهُ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أَهْدَيْتَ إِلَيَّ شِعْرَ حَسَّانَ، مَا كُنْتَ تَأْتِيَنِي بِخَيْرٍ "