ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] قَالَ: «لَا تَطِيبُ نَفْسَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا فَتُحَلِّلَهُ، وَلَا تَطِيبُ نَفْسُهَا أَنْ تُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا، فَتَعْطِفَهُ عَلَيْهَا». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: أُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ بِأَنْصِبَائِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْأَيَّامِ وَالنَّفَقَةِ. وَالشُّحُّ: الْإِفْرَاطُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إِفْرَاطُ حِرْصِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَصِيبِهَا مِنْ أَيَّامِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَنَفَقَتِهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ أَهْوَاءَهُنَّ مِنْ فَرْطِ الْحِرْصِ عَلَى حُقُوقِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالشُّحُّ بِذَلِكَ عَلَى ضَرَائِرِهِنَّ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الشُّحِّ، ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] وَالشُّحُّ: هَوَاهُ فِي الشَّيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ " -[٥٦٥]- وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفَسُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الشُّحَّ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، لِأَنَّ مُصَالَحَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ جَعْلًا عَلَى أَنْ تَصْفَحَ لَهُ عَنِ الْقَسْمِ لَهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَاضٍ عِوَضًا مَنْ جَعْلِهِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا، وَالْجُعْلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى عِوَضٍ: إِمَّا عَيْنٍ، وَإِمَّا مَنْفَعَةٍ، وَالرَّجُلُ مَتَى جَعَلَ لِلْمَرْأَةِ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَصْفَحَ لَهُ عَنْ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا فَلَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهَا عَيْنًا وَلَا مَنْفَعَةً. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ إِذْ كَانَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ، وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ، فَلِلرَّجُلِ افْتِدَاؤُهُ مِنْهَا بِجَعْلٍ، فَإِنَّ شُفْعَةَ الْمُسْتَشْفِعِ فِي حِصَّةٍ مِنْ دَارٍ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَطْلُوبِ افْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ بِجَعْلٍ، وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ فِي ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ، إِذْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَاضٍ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ فِي الشُّفْعَةِ عَيْنًا وَلَا نَفْعًا، مَا يَدُلُّ عَلَى بُطُولِ صُلْحِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ عَلَى عِوَضٍ، عَلَى أَنْ تَصْفَحَ عَنْ مُطَالَبَتِهَا إِيَّاهُ بِالْقِسْمَةِ لَهَا. وَإِذْ فَسَدَ ذَلِكَ صَحَّ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ مَا قُلْنَا. وَقَدْ أَبَانَ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ -[٥٦٦]- إِعْرَاضًا﴾ [النساء: ١٢٨] الْآيَةُ، نَزَلَتْ فِي أَمْرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَزَوْجَتِهِ، إِذْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً، فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا، فَأَبَتِ الْكَبِيرَةُ أَنْ تَقَرَّ عَلَى الْأَثَرَةِ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَتَرَكَهَا، فَلَمَّا قَارَبَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، خَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِرَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَثَرَةِ، فَاخْتَارَتِ الرَّجْعَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَثَرَةِ، فَرَاجَعَهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَصْبِرْ فَطَلَّقَهَا. فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] إِنَّمَا عَنَى بِهِ: وَأُحْضِرَتْ أَنْفُسُ النِّسَاءِ الشُّحَّ بِحُقُوقِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ [النساء: ١٢٨] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِنْ تُحْسِنُوا أَيُّهَا الرِّجَالُ فِي أَفْعَالِكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ إِذَا كَرِهْتُمْ مِنْهُنَّ دَمَامَةً أَوْ خُلُقًا، أَوْ بَعْضَ مَا تَكْرَهُونَ مِنْهُنَّ بِالصَّبِرِ عَلَيْهِنَّ، وَإِيْفَائِهِنَّ حُقُوقَهُنَّ، وَعِشْرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ [النساء: ١٢٨] يَقُولُ: " وَتَتَّقُوا اللَّهَ فِيهِنَّ بِتَرْكِ الْجَوْرِ مِنْكُمْ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِمَنْ كَرِهْتُمُوهُ مِنْهُنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقِسْمَةِ لَهُ وَالنَّفَقَةِ وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: ١٢٨] يَقُولُ: " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ فِي أُمُورِ نِسَائِكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يُلْزِمُكُمْ لَهُنَّ وَيَجِبُ ﴿خَبِيرًا﴾ [النساء: ٣٥] يَعْنِي عَالِمًا خَابِرًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ بِهِ عَالِمٌ، وَلَهُ مُحْصٍ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُوفِيَكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ


الصفحة التالية
Icon