حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيٍّ، قَوْلُهُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَرْضِي أَرْضُ صَيْدٍ؟ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْكَ كَلْبُكَ، وَإِنْ قَتَلَ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ وَتَكْرَارِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ دُخُولِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا صَيْدَ جَوَارِحِنَا الْحَلَالِ، وَمَنْ إِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ مُبَعِّضَةً لِمَا دَخَلَتْ فِيهِ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ فِي مَعْنَى دُخُولِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ حِينَ دَخَلَتْ مِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِغَيْرِ مَعْنًى، كَمَا تُدْخِلُهُ الْعَرَبُ فِي قَوْلِهُمْ: كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثٍ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا -[١٢٦]- مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] قَالَ: " وَهُوَ فِيمَا فُسِّرَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] أَيْ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَدٍ، بِجَعْلِ الْجِبَالِ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ، وَبِجَعْلِ الْإِنْزَالِ مِنْهَا. وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَمْ تَدْخُلْ مِنْ إِلَّا لِمَعْنًى مَفْهُومٍ لَا يَجُوزُ الْكَلَامُ وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى التَّبْعِيضِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِمْ: قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثٍ: هَلْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ مَطَرَ عِنْدَكُمْ، وَهَلْ مِنْ حَدِيثٍ حُدِّثَ عِنْدَكُمْ. ويَقُولُ: مَعْنَى ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] أَيْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتُكُمْ مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] فَيُجِيزُ حَذْفَ مِنْ مَنْ ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] وَلَا يُجِيزُ حَذْفَهَا مِنَ الْجِبَالِ، وَيَتَأَوَّلُ مَعْنَى ذَلِكَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ أَمْثَالَ جِبَالِ بَرَدٍ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ مِنْ فِي الْبَرَدِ، لِأَنَّ الْبَرَدَ مُفَسَّرٌ عِنْدَهُ عَنِ الْأَمْثَالِ: أَعْنِي: أَمْثَالَ الْجِبَالِ، وَقَدْ أُقِيمَتِ الْجِبَالُ مَقَامَ الْأَمْثَالِ وَالْجِبَالِ وَهِيَ جِبَالُ بَرَدٍ، فَلَا يُجِيزُ حَذْفَ مِنْ مِنَ الْجِبَالِ، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِيَ فِي السَّمَاءِ الَّذِي أُنْزِلَ مِنْهُ الْبَرْدُ أَمْثَالُ جِبَالِ بَرَدٍ، وَأَجَازَ حَذْفَ مِنْ مِنَ الْبَرَدِ، لِأَنَّ الْبَرَدَ مُفَسَّرٌ عَنِ الْأَمْثَالِ، كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي رَطْلَانِ زَيْتًا، وَعِنْدِي رَطْلَانِ مِنْ زَيْتٍ، -[١٢٧]- وَلَيْسَ عِنْدَكَ الرَّطْلُ وَإِنَّمَا عِنْدَكَ الْمِقْدَارُ، فَمِنْ تَدْخُلُ فِي الْمُفَسَّرُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: مِنَ السَّمَاءِ، مِنْ أَمْثَالِ جِبَالٍ، وَلَيْسَ بِجِبَالٍ. وَقَالَ: وَإِنْ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ جِبَالٍ فِي السَّمَاءِ مِنْ بَرَدٍ جِبَالًا، ثُمَّ حَذَفَ الْجِبَالَ الثَّانِيَةَ وَالْجِبَالَ الْأَوَّلَ فِي السَّمَاءِ جَازَ، تَقُولُ: أَكَلْتُ مِنَ الطَّعَامِ، تُرِيدُ: أَكَلْتُ مِنَ الطَّعَامِ طَعَامًا، ثُمَّ تَحْذِفُ الطَّعَامَ وَلَا تُسْقِطُ مِنْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ لَا تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا لِمَعْنًى مَفْهُومٍ، وَقَدْ يَجُوزُ حَذْفُهَا فِي بَعْضِ الْكَلَامِ وَبِالْكَلَامِ إِلَيْهَا حَاجَةٌ لِدَلَالَةِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْكَلَامِ لِغَيْرِ مَعْنًى أَفَادَتْهُ بُدُخُولِهَا، فَذَلِكَ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْكَلَامِ. وَمَعْنَى دُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] لِلتَّبْعِيضِ إِذْ كَانَتِ الْجَوَارِحُ تُمْسِكُ عَلَى أَصْحَابِهَا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ لُحُومَهُ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَرْثَهُ وَدَمَهُ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤] جَوَارِحُكُمُ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحْلَلْتُ لَكُمْ مِنْ لُحُومِهَا دُونَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ خَبَائِثِهِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ أُطَيِّبْهُ لَكُمْ، فَذَلِكَ مَعْنَى دُخُولِ مِنْ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دُخُولِهَا فِيهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا دُخُولُهَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ﴾ [النور: ٤٣] فَسَنُبَيِّنُهُ إِذَا -[١٢٨]- أَتَيْنَا عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: