وَبَعْدُ: فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَكَ، أَفَلَهُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَيًّا وَيَتْرُكَهُ عَلَى الْخَشَبَةِ مَصْلُوبًا حَتَّى يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَتْلِهِ؟ فَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ لَهُ، خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُمَّةَ. وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ قَتْلُهُ ثُمَّ صَلْبُهُ أَوْ صَلْبُهُ ثُمَّ قَتْلُهُ، تَرَكَ عِلَّتَهُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَوْ تَأْتِي بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْقَتْلِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَطْعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الصَّلْبِ وَحْدَهُ، حَتَّى تُجْمَعَ إِلَيْهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى؟ وَقِيلَ لَهُ: هَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ الْخِيَارَ حَيْثُ أَبَيْتَ وَأَبَى ذَلِكَ حَيْثُ جَعَلْتَهُ لَهُ، فَرْقٌ مِنْ أَصْلٍ أَوْ قِيَاسٍ؟ فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَذَلِكَ مَا:
حَدَّثَنَا بِهِ، عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفْرِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ. قَالَ أَنَسٌ: فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِي، وَسَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ. قَالَ أَنَسٌ: فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ، فَقَالَ: «مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ وَرِجْلِهِ بِإِخَافَتِهِ. وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ. وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ [المائدة: ٣٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي -[٣٨٤]- جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ مُخَالِفًا فِي قَطْعِهَا قَطْعَ أَرْجُلِهِمْ، وَذَلِكَ أَنْ تُقْطَعَ أَيْمَنُ أَيْدِيهِمْ وَأَشْمَلُ أَرْجُلِهِمْ، فَذَلِكَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ مِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَوِ الْبَاءِ، فَقِيلَ: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ خِلَافٌ أَوْ بِخِلَافٍ، لَأَدَّيَا عَمَّا أَدَّتْ عَنْهُ مِنْ مِنَ الْمَعْنَى وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يَهْرُبَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ