فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَاهُمَا بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخٌ زَعَمُوا أَنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩] وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كِتَابِنَا: كِتَابُ الْبَيَانِ عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ نَسْخًا إِلَّا مَا كَانَ نَفْيًا لِحُكْمِ غَيْرِهِ بِكُلِّ مَعَانِيهِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ اجْتِمَاعُ الْحُكْمُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى صِحَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ حَكَمْتَ بَيْنَهُمْ بِاخْتِيَارِكَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ إِذَا اخْتَرْتَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْتَرِ الإِعْرَاضَ عَنْهُمْ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِعْلَامُ الْمَقُولِ لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الْحُكْمِ وَتَرْكَ الْحُكْمِ؛ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩] أَنَّهُ نَاسِخٌ قَوْلَهُ: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ احْتِمَالِ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى مِثْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: ٤٢] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَلَا نَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ حُكْمَ الْآخَرِ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يَصِحُّ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ صَاحِبَهُ، وَلَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعٌ؛ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ يُؤَيِّدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَيُوَافِقُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ وَلَا نَسْخَ فِي أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ [المائدة: ٤٢] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنْ تُعْرَضْ يَا مُحَمَّدُ عَنِ الْمُحْتَكِمِينَ إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتَدَعَ النَّظَرَ بَيْنَهُمْ فِيمَا