حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قِرَاءَةً، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا﴾ [الأنعام: ١٢٥] «بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ تَدْخُلَهُ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: ﴿ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥] بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ مِنْ ﴿حَرَجًا﴾ [النساء: ٦٥]، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ الْمَكِّيِّينَ وَالْعِرَاقِيِّينَ، بِمَعْنَى: حَرَجَةٍ عَلَى مَا وَصَفْتُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: (ضَيِّقًا حَرِجًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَرَجِ، وَقَالُوا: الْحَرَجُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ، وَالْحَرِجُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، مِثْلُ الدَّنَفِ وَالدَّنِفِ، وَالْوَحَدِ وَالْوَحِدِ، وَالْفَرَدِ وَالْفَرِدِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ آثَمٌ حَرِجٌ. وَذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا مِنْهَا: حَرِجٌ عَلَيْكَ ظُلْمِي، بِمَعْنَى: ضِيقٌ وَإِثْمٌ وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَلُغَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ لِاتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْعَرَبِ فِي الْوَحَدِ وَالْفَرَدِ بِفَتْحِ الْحَاءِ مِنَ الْوَحَدِ وَالرَّاءِ مِنَ الْفَرَدِ وَكَسْرِهِمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. -[٥٤٨]- وَأَمَّا الضَّيِّقُ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْقُرَّاءِ عَلَى فَتْحِ ضَادِهِ وَتَشْدِيدِ يَائِهِ، خَلَا بَعْضِ الْمَكِّيِّينَ فَإِنَّهُ قَرَأَهُ: (ضَيْقًا) بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهِ. وَقَدْ يَتَّجِهُ لِتَسْكِينِهِ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ سَكَّنَهُ وَهُوَ يَنْوِي مَعْنَى التَّحْرِيكِ وَالتَّشْدِيدِ، كَمَا قِيلَ: هَيْنٌ لَيْنٌ، بِمَعْنَى: هَيِّنٌ لَيِّنٌ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ سَكَّنَهُ بِنِيَّةِ الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَاقَ هَذَا الْأَمْرُ يَضِيقُ ضَيْقًا، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
[البحر الرجز]

وَقَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ كُلِّ مَأْزِقِ ضَيْقٍ بِوَجْهِ الْأَمْرِ أَيِّ مَضْيَقِ
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧]. وَقَالَ رُؤْبَةُ أَيْضًا:
وَشَفَّهَا اللَّوْحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ بِمَعْنَى: ضَيِّقٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ: فِي الْمَعَاشِ وَالْمَوْضِعِ، وَفِي الْأَمْرِ الضَّيْقُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْيَنُ الْبَيَانِ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهَا عَنْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ تُوِصِّلَ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ غَيْرُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تُوِصِّلَ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّ كِلَّا -[٥٤٩]- السَّبَبَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَشْرُحُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ هِدَايَتَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلُ صَدْرَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ ضَيِّقًا عَنِ الْإِسْلَامِ حَرَجًا، كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ خِلَافُ تَضْيِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ تُوِصِّلَ بِتَضْيِيقِ الصَّدْرِ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ تَضْيِيقِهِ عَنْهُ وَبَيْنَ شَرْحِهِ لَهُ فَرْقٌ، وَلَكَانَ مَنْ ضَيَّقَ صَدْرَهُ عَنِ الْإِيمَانِ قَدْ شَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ، وَمَنْ شَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ فَقَدْ ضَيَّقَ عَنْهُ، إِذْ كَانَ مَوْصُولًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي مِنَ التَّضْيِيقِ وَالشَّرْحِ، إِلَى مَا يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ كَانَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي جَهْلٍ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَضَيَّقَ صَدْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. وَفِي فَسَادِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ آمَنَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَطَاعَهُ الْمُطِيعُونَ، غَيْرُ السَّبَبِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَعَصَاهُ الْعَاصُونَ، وَأَنَّ كِلَا السَّبَبَيْنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِيَدِهِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَشْرَحُ صَدْرَ هَذَا الْمُؤْمِنِ بِهِ لِلْإِيمَانِ إِذَا أَرَادَ هِدَايَتَهُ، وَيُضَيِّقُ صَدْرَ هَذَا الْكَافِرِ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ إِضْلَالَهُ


الصفحة التالية
Icon