يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكّل الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيئة لنهاية الترقي، متضمنة للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعة مع ابقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.
النكتة الثالثة: هي انه يمكن بالقهر والجبر تحكم ظاهريّ، وتسلط سطحيّ. لكن الغلبة على الأفكار، والتأثير بالقاء حلاوته في الأرواح، والتسلط على الطبائع مع محافظة حاكميته على الوجدان دائما لا يكون الاّ من خوارق العادات.. وليس الاّ الخاصة الممتازة للنبّوة.
النكتة الرابعة: هي ان تدوير أفكار العموم وارشادها بحيل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف انما يكون تأثيرها جزئيا سطحياً موقتا يسدّ طريق المحاكمة العقلية في زمان. أما من نفذ في أعماق القلوب بارشاده، وهيج دقائق الحسيات، وكشف اكمام الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر انسانيتهم فواراً، وأبرز قيمة ناطقيتهم؛ فانما هو مقتبس من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصا في قساوة قلبه يقبر بنته حيةً ولا يتألم ولا يتأثر اذ تراه بعد يوم - وقد اسلم - يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألم حيوان. فبالله عليك أينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟.
فاذا عرفت هذه النكت تأمل في نقطة أخرى وهي:
ان تاريخ العالم يشهد ان الداهيَ الفريدَ انما هو الذي اقتدر على انعاش استعداد عموميّ، وايقاظ خصلة عمومية، والتسبب لانكشاف حسّ عموميّ؛ اذ مَن لم يوقظ هكذا حسّا نائما يكون سعيُه هباء موقتا ولو كان جليلا في نفسه.. وأيضا ان التاريخ يرينا ان أعظم الناس هو الموفَّق لايقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحس الحمية الملّية، وحس الاخوة، وحس المحبة، وحس الحرية الخ. أفلا يكون اذاً ايقاظ الوف من الحسِّيات - المستورة العالية، وجعلها فوّارة منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراء الوسيعة - من الخوارق؟.. نعم ١.! هو من ضياء شمس الحقيقة.

١ لعله بلى" (ش)


الصفحة التالية
Icon