قوله ٤٧ - ﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾ ذكر سبحانه أولا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب والمراد أنهم أوتوا نصيبا منه لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه بل حرفوا وبدلوا وقوله ﴿ مصدقا ﴾ منتصب على الحال والطمس : استئصال أثر الشيء ومنه ﴿ فإذا النجوم طمست ﴾ يقال : نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال : طمس الأثر أي محاه كله ومنه ﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ومنه ﴿ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ﴾ أي أعميناهم
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة ؟ فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ فذهب إلى الأول طائفة وذهب إلى الآخر آخرون وعلى الأول فالمراد بقوله ﴿ فنردها على أدبارها ﴾ نجعلها قفا : أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا وقيل : إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا والقفا إلى مواضعها وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله ﴿ فنردها على أدبارها ﴾ فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين وقال المبرد : الوعيد باق منتظر وقال : لا بد من طمس في اليهود ونسخ قبل يوم القيامة قوله ﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ﴾ الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس أو اللعن وقد وقع اللعن ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت قوله ﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾ أي : كائنا موجودا لا محالة أو يراد بالأمر المأمور والمعنى : أنه متى أراده كان كقوله ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾
قوله ٤٨ - ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ولا يختص بكفار أهل الحرب لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيخ ابن الله وقالوا : ثالث ثلاثة ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز و جل إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز و جل وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة وقد تقدم قوله تعالى ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله فيه ﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ الآية وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله ﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ يعني : يحرفون حدود الله في التوراة وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله ﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ قال : تبديل اليهود التوراة ﴿ ويقولون سمعنا وعصينا ﴾ قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك ﴿ واسمع غير مسمع ﴾ قال : غير مقبول ما تقول ﴿ ليا بألسنتهم ﴾ قال : خلافا يلووه به ألسنتهم ﴿ واسمع وانظرنا ﴾ قال : أفهمنا لا تعجل علينا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله ﴿ واسمع غير مسمع ﴾ قال : يقولون اسمع لا سمعت وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :[ كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم رؤساء من أحبار اليهود : منهم عبد الله بن صوريا وكعب نب أسد فقال لهم :
يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد وأنزل الله فيهم ﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب ﴾ الآية ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله ﴿ من قبل أن نطمس وجوها ﴾ قال : طمسها أن تعمى ﴿ فنردها على أدبارها ﴾ يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين في قفاه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ﴿ من قبل أن نطمس وجوها ﴾ يقول : عن صراط الحق ﴿ فنردها على أدبارها ﴾ قال : في الضلالة وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال :[ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال : وما دينه ؟ قال : يصلي ويوحد الله قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : وجدته شحيحا على دينه فنزلت ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ الآية ] وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر
قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه و سلم :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ وقال :[ إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال :[ لما نزلت ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ الآية قام رجل فقال : والشرك يا نبي الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ الآية ] وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال : أحب آية إلي القرآن ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ الآية


الصفحة التالية
Icon