البصائر : جمع بصيرة وهي في الأصل : نور القلب والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولهذا قال في آخره : ١٠٤ - ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ ووصف البصائر بالمجيء تفخيما لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال : جاءت العافية وانصرف المرض وأقبلت السعود وأدبرت النحوس ﴿ فمن أبصر فلنفسه ﴾ أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار ﴿ ومن عمي ﴾ عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار ﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ برقيب أحصي عليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم قال الزجاج : نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان
١٠٥ - ﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه قوله :﴿ وليقولوا درست ﴾ العطف على محذوف : أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست أو علة لفعل محذوف يقدر متأخرا : أي وليقولوا درست صرفناها وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة والمعنى : ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست فإنه لا احتفال بقولهم : ولا اعتداد بهم فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج وقال النحاس : وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى ﴿ نصرف الآيات ﴾ نأتي بها آية بعد آية ﴿ ليقولوا درست ﴾ علينا فيذكرون الأول بالأخر فهذا حقيقته والذي قاله أبو إسحاق : يعني الزجاج مجاز وفي ﴿ درست ﴾ قراءات قرأ أبو عمرو وابن كثير دارست بألف بين الدال والراء كفاعلت وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة وقرأ ابن عامر ﴿ درست ﴾ بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت ويه قراءة الحسن وقرأ الباقون ﴿ درست ﴾ كضربت فعلى القراءة الأولى المعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك : أي ذاكرتهم وذاكروك ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله :﴿ وأعانه عليه قوم آخرون ﴾ أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه و سلم على القرآن ومثله قولهم :﴿ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾ وقولهم :﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم ﴿ أساطير الأولين ﴾ والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى قال الأخفش : هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ وحكي عن المبرد أنه قرأ ﴿ وليقولوا ﴾ بإسكان اللام فيكون فيه معنى التهديد : أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين وفي هذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل : من درسته : أي ذللته بكثرة القراءة وأصله درس الطعام : أي داسه والدياس : الدراس بلغة أهل الشام وقيل : أصله من درست الثوب أدرسه درسا : أي أخلقته ودرست المرأة درسا : أي حاضت ويقال : إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض والدرس أيضا : الطريق الخفي وحكى الأصمعي : بعير لم يدرس : أي لم يركب وروي عن ابن عباس وأصحابه وأبي وابن مسعود والأعمش أنهم قرأوا درس أي درس محمد الآيات وقرئ درست وبه قرأ زيد بن ثابت : أي الآيات على البناء للمفعول ودارست أي دارست اليهود محمدا واللام في ﴿ لنبينه ﴾ لام كي : أي نصرف الآيات لكي نبينه لقوم يعلمون والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل