قوله : ٤٣ - ﴿ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ فيه تعجيب له صلى الله عليه و سلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه وإنما يأتون إليه صلى الله عليه و سلم ويحكمونه طمعا منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير قوله :﴿ ثم يتولون ﴾ عطف على يحكمونك ﴿ من بعد ذلك ﴾ أي من بعد تحكيمهم لك وجملة قوله :﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ لتقرير مضمون ما قبلها
وقوله : ٤٤ - ﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾ استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه و سلم وإيجاب اتباعه قوله :﴿ يحكم بها النبيون ﴾ هم أنبياء بني إسرائيل والجملة إما مستأنفة أو حالية و ﴿ الذين أسلموا ﴾ صفة مادحة للنبيين وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه و سلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه و سلم وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه و سلم وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيما قوله :﴿ للذين هادوا ﴾ متعلق بيحكم والمعنى : أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا عليهم والربانيون العلماء الحكماء وقد سبق تفسيره والأحبار العلماء مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم : أي يحسنونه قال الجوهري : الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح وقال الفراء : هو بالكسر وقال أبو عبيدة : هو بالفتح قوله :﴿ بما استحفظوا من كتاب الله ﴾ الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ : أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل والجار والمجرور متعلق بيحكم : أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ قوله :
﴿ وكانوا عليه شهداء ﴾ أي على كتاب الله والشهداء الرقباء فهم يحمون عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة والخطاب بقوله :﴿ فلا تخشوا الناس ﴾ لرؤساء اليهود وكذا في قوله :﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ والاشتراء الاستبدال وقد تقدم تحقيقه قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ لفظ من من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولي الحكم وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب وقيل بالكفار مطلقا لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا أو استحلالا أو جحدا والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى من والجمع باعتبار معناها وكذلك ضمير الجماعة في قوله :﴿ هم الكافرون ﴾
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ﴾ قال : هم اليهود ﴿ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴾ قال : هم المنافقون وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عنه قال : إن الله أنزل ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ﴿ الظالمون ﴾ ﴿ الفاسقون ﴾ أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ورسول الله يومئذ لم يظهر عليهم فقتلت الذليلة من العزيزة فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما إذا قدم محمد صلى الله عليه و سلم فلا نعطيكم ذلك فكانت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما ففكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد يعطيكم منهم ضعف ما نعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتوه وإن لم يعطكم حذرتموه ولم تحكموه فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ناسا من المنافقين يختبرون لهم رأيه فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا فأنزل الله ﴿ يا أيها الرسول لا يحزنك ﴾ إلى قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ثم قال فيهم : والله أنزلت وإياهم عنى وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال :[ أول مرجوم رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم من اليهود زنى رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد وأصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم حتى أتى
بيت مدراسهم فقام على الباب : فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا : يحمم ونجبه ويجلد والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم سكت ألظ به النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا نجب فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا : والله لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما ] قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ﴾ فكان النبي صلى الله عليه و سلم منهم وأخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق أخرى عن أبي هريرة وذكر فيه أن الشاب المذكور هو عبد الله بن صوريا وأخرج نحو حديث أبي هريرة أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر :[ أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تجدون في التوراة ؟ قالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم قالوا صدق فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله في قوله :﴿ ومن الذين هادوا سماعون للكذب ﴾ قال : يهود المدينة ﴿ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ﴾ قال : يهود فدك ﴿ يحرفون الكلم ﴾ قال : يهود فدك يقولون ليهود المدينة ﴿ إن أوتيتم هذا ﴾ الجلد ﴿ فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ الرجم وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عنه قال : زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا وذكر القصة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ أكالون للسحت ﴾ قال : أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : السحت الرشوة في الدين قال سفيان : يعني في الحكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أيضا قال : من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة أو يرد عليه حقا فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت فقيل له : يا أبا عبد الرحمن إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم فقال ذلك الكفر :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ وقد روي نحو هذا عنه من طرق وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : رشوة الحكام حرام وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت قال : السحت الرشوة وأخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن السحت فقال : الرشا فقيل له في الحكم قال : ذاك الكفر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر قال : بابان من السحت يأكلهما الناس : الرشاء في الحكم ومهر الزانية وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في تحريم الرشوة ما هو معروف وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : آيتان نسختا من سورة المائدة : آية القلائد وقوله :﴿ فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مخيرا : إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم فنزلت ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾ قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا وأخرج نحوه في الآية الآخرة عنه أبو عبيدة وابن المنذر وابن مردويه وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة نحوه وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن الآيات من المائدة التي قال فيها :﴿ فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ﴾ إلى قوله :﴿ المقسطين ﴾ إنما نزلت في الدية من بني النضير وقريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف يودون الدية كاملة وأن بني قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء وأخرج نحوه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله :﴿ وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ يعني حدود الله فأخبره الله بحكمه في التوراة قال :﴿ وكتبنا عليهم فيها ﴾ إلى قوله :﴿ والجروح قصاص ﴾ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله :﴿ يحكم بها النبيون الذين أسلموا ﴾ يعني النبي صلى الله عليه و سلم ﴿ للذين هادوا ﴾ يعني اليهود وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : الذين أسلموا النبي ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الربانيون والأحبار الفقهاء والعلماء وأخرج عن مجاهد قال : الربانيون العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : الربانيون العباد والأحبار العلماء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الربانيون الفقهاء العلماء وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : الربانيون هم المؤمنون والأحبار هم القراء وأخرج ابن جرير عن السدي ﴿ فلا تخشوا الناس ﴾ فتكتموا ما أنزلت ﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ على أن تكتموا ما أنزلت وأخرج ابن جرير عن ابن زيد ﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ قال : لا تأكلوا السحت على كتابي وأخرج ابن جرير وابن المذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ومن لم يحكم ﴾ يقول : من جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ قال : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل دون كفره وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح في قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ﴿ هم الظالمون ﴾ ﴿ هم الفاسقون ﴾ قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وأخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن


الصفحة التالية
Icon