قوله : ٤٥ - ﴿ وكتبنا ﴾ معطوف على أنزلنا التوراة ومعناها فرضنا بين الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل : من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا : إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم : إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ ما فيه كفاية
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه قال ابن كثير في تفسيره : وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى
وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا على المنتقى وفي هذه الآية لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه وقد كانوا يقيدون بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير قوله :﴿ والعين بالعين ﴾ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالنصب أيضا في الكل إلا في الجروح فبالرفع وقرأ الكسائي وأبو عبيد بالرفع في الجميع عطفا على المحل لأن النفس قبل دخول الحرف الناصب عليها كانت مرفوعة على الابتداء وقال الزجاج : يكون عطفا على المضمر في النفس لأن التقدير : إن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين والظاهر من النظم القرآن أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيا مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها وكذلك السن فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين أو ببعض الأنف أو ببعض الأذن أو ببعض السن فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب الفروع والظاهر من قوله :﴿ والسن بالسن ﴾ أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس والرباعيات وأنه يؤخذ بعضها ببعض ولا فضل لبعض على بعض وإليه ذهب أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه وكلامهم مدون في مواطنه ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه فإن كانت ذاهبة فما يليها قوله :﴿ والجروح قصاص ﴾ أي ذوات قصاص وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقا أو طولا أو عرضا وقد قدر أئمة الفقه أرش كل جراحة بمقادير معلومة وليس هذا موضع بيان كلامهم ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر قوله :﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ أي من تصدق من المستحقين للقصاص بالقصاص بأن عفا عن الجاني فهو كفارة للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه وقيل إن المعنى : فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه والأول أرجح لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور قوله :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن هذا الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية