ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات قال : ٢٧ - ﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ والملأ الأشراف كما تقدم غير مرة ووصفهم بالكفر ذما لهم وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة ﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا ﴾ هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوته : أي نحن وأنت مشتركون في البشرية فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوة دوننا والجهة الثانية :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ ولم يتبعك أحد من الأشراف فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك والأراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل مثل أكالب وأكلب وكلب وقيل : الأراذل جمع الأرذل كالأساود جمع أسود وهم السفلة قال النحاس : الأراذل : الفقراء والذين لا حسب لهم والحسب الصناعات قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه قيل له : فمن سفلة السفلة ؟ قال : الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية فبشرا في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال وانتصاب بادي الرأي على الظرفية والعامل فيه اتبعك والمعنى : في ظاهر الرأي من غير تعمق يقال : بدا يبدو : إذا ظهر قال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي والوجه الثالث : من جهات قدحهم في نبوته ﴿ وما نرى لكم علينا من فضل ﴾ خاطبوه في الوجهين الأولين منفردا وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي : ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به وتستحقون ما تدعونه ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية فقالوا :﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ فيما تدعونه ويجوز أن يكون هذا خطابا للأراذل وحدهم والأول أولى لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم فقال : ٢٨ - ﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ﴾ أي أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون ما جعلتموه قادحا ليس بقادح في الحقيقة فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوة واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوة فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة ﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾ هي النبوة وقيل الرحمة المعجزة والبينة النبوة قيل : ويجوز أن تكون الرحمة هي البينة نفسها والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة والإفراد في ﴿ فعميت ﴾ على إرادة كل واحدة منهما أو على إرادة البينة لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر ومعنى عميت خفيت وقيل : الرحمة هي على الخلق وقيل : هي الهداية إلى معرفة البرهان وقيل : الإيمان يقال : عميت عن كذا وعمي علي كذا : إذا لم أفهمه قيل : وهو من باب القلب لأن البينة أو الرحمة لا تعمي وإنما يعمي عنها فهو كقولهم : أدخلت القلنسوة رأسي وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وحفص ﴿ فعميت ﴾ بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول : أي فعماها الله عليكم وفي قراءة أبي ﴿ فعميت عليكم ﴾ والاستفهام في ﴿ أنلزمكموها ﴾ للإنكار : أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها والحال أنكم لها كارهون والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز و جل وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في أنلزمكموها تخفيفا كما في قول الشاعر :
( فاليوم أشرب غير مستحقب | إثما من الله ولا واغل ) |