١٠٨ - ﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ﴾ قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ﴿ سعدوا ﴾ بضم السين وقرأ الباقون بفتح السين واختار هذه القراءة أبو عبيدة وأبو حاتم قال سيبويه : لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان لكونه مما لا يتعدى قال النحاس : ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية وهذا لحن لا يجوز ومعنى الآية كما مر في قوله :﴿ فأما الذين شقوا ﴾ قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه ﴿ عطاء غير مجذوذ ﴾ أي يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ والمجذوذ : المقطوع من جذه يجذه إذا قطعه والمعنى : أنه ممتد إلى غير نهاية
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ يقدم قومه يوم القيامة ﴾ يقول : أضلهم فأوردهم النار وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس في قوله :﴿ فأوردهم النار ﴾ قال : الورود الدخول وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ بئس الرفد المرفود ﴾ قال : لعنة الدنيا والآخرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه ﴿ منها قائم وحصيد ﴾ يعني قرى عامرة وقرى خامدة وأخرج أبو الشيخ عن قتادة : منها قائم يرى مكانه وحصيد لا يرى له أثر وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج : منها قائم خاو على عروشه وحصيد ملصق بالأرض وأخرج أبو الشيخ عن أبي عاصم ﴿ فما أغنت عنهم ﴾ قال : ما نفعت وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر في قوله :﴿ وما زادوهم غير تتبيب ﴾ أي هلكة وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : تخسير وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة معناه وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إن الله سبحانه
وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ ] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله :﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ﴾ يقول : إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ﴾ قال : يوم القيامة وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد مثله وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله :﴿ يوم يأت ﴾ قال : ذلك اليوم وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال :[ لما نزلت ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ قلت : يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له ] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : هاتان من المخبآت قول الله :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ و ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا ﴾ أما قوله :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ثم يأذن في الشفاعة لهم فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار ﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ حين أذن في الشفاعة لهم وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم ﴿ وأما الذين سعدوا ﴾ يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه ﴿ ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ يعني الذين كانوا في النار وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة أنه تلا هذه الآية :﴿ فأما الذين شقوا ﴾ فقال : حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :[ يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء : إن من دخلها بقي فيها ] وأخرج ابن مردويه عن جابر قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ﴿ فأما الذين شقوا ﴾ إلى قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن خالد بن معدان في قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : إنها في التوحيد من أهل القبلة وأخرج عبد الرزاق وابن الضريس
وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله أو عن أبي سعيد الخدري أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن أبي نضرة قال : ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية ﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ ما دامت السموات والأرض ﴾ قال : لكل جنة سماء وأرض وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي نحوه وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن نحوه أيضا وأخرج البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وأن يخلد هؤلاء في الجنة وأخرج ابن جرير عنه في قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : استثنى الله من النار أن تأكلهم وأخرج أبو الشيخ عن السدي في الآية قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة :﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ﴾ إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن
يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد وقوله :﴿ وأما الذين سعدوا ﴾ الآية قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات ﴾ إلى قوله :﴿ ظلا ظليلا ﴾ فأوجب لهم خلود الأبد وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ :﴿ فأما الذين شقوا ﴾ الآية وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية ﴿ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ قال : الله أعلم بتثنيته على ما وقعت وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر وأبو هريرة وابن مسعود كابن عباس وعبد الله بن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما من التابعين
وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي وإسناده ضعيف ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة وفي السكوت عنه غنى فقال : ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ثم قال : وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث انتهى
وأقول : أما الطعن علىمن قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره وبه قال ابن عباس حبر الأمة وأما الطعن على صاحب رسول الله وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فإلى أين يا محمود أتدري ما صنعت وفي أي واد وقعت
وعلى أي جنب سقطت ؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نحوم السماء بيديك القصيرة ورجلك العرجاء أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه


الصفحة التالية
Icon