قوله : ٦٤ - ﴿ يد الله مغلولة ﴾ اليد عند العرب تطلق على الجارحة ومنه قوله تعالى :﴿ وخذ بيدك ضغثا ﴾ وعلى النعمة يقولون كم يد لي عند فلان وعلى القدرة ومنه قوله تعالى :﴿ قل إن الفضل بيد الله ﴾ أو على التأييد ومنه قوله صلى الله عليه و سلم :[ يد الله مع القاضي حين يقضي ] وتطلق على معان أخر وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾ والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازا ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف ومنه قول الشاعر :
( كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها | وكل باب من الخيرات مفتوح ) |
( فاستبدلت بعده جعدا أنامله | كأنما وجهه بالخل منضوح ) |
فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل فأجاب سبحانه عليهم بقوله :
﴿ غلت أيديهم ﴾ دعاء عليهم بالبخل فيكون الجواب عليهم مطابقا لما أرادوه بقوله :
﴿ يد الله مغلولة ﴾ ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهوديا وإن كان ماله في غاية الكثرة إلا وهو من أبخل خلق الله وأيضا المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله قوله :
﴿ ولعنوا بما قالوا ﴾ معطوف على ما قبله والباء سببية : أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم :
﴿ يد الله مغلولة ﴾ ثم رد سبحانه بقوله :
﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ أي بل هو في غاية ما يكون من الجود وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام : أي كلا ليس الأمر كذلك
﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ وقيل المراد بقوله :
﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾ نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة وقيل نعمة المطر والنبات وقيل الثواب والعقاب وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان : أي منطلقتان كيف يشاء قوله :
﴿ ينفق كيف يشاء ﴾ جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه : أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته فإن شاء وسع وإن شاء قتر فهو الباسط القابض فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا لشيء آخر فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى قوله :
﴿ وليزيدن كثيرا منهم ﴾ إلخ اللام هي لام القسم : أي ليزيدن كثيرا من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة
﴿ طغيانا وكفرا ﴾ أي طغيانا إلى طغيانهم وكفرا إلى كفرهم قوله :
﴿ وألقينا بينهم ﴾ أي بين اليهود
﴿ العداوة والبغضاء ﴾ أو بين اليهود والنصارى قوله :
﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ﴾ أي كلما جمعوا للحرب جمعا وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم وذهب بريحهم فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ثم يبطل الله ذلك والآية مشتملة على استعارة بليغة وأسلوب بديع
﴿ ويسعون في الأرض فسادا ﴾ أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله وقيل المراد بالنار هنا الغضب : أي كلما أثاروا في أنفسهم غضبا أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم قوله :
﴿ والله لا يحب المفسدين ﴾ إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولا أوليا وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه