ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور قوى قلبه بوعد النصر والغلبة فقال : ٦٠ - ﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ﴾ الظرف متعلق بمحذوف : أي اذكر إذ قلنا لك : أي أنهم في قبضته وتحت قدرته فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته وقيل المراد بالناس أهل مكة وإحاطته بهم إهلاكه إياهم : أي إن الله سيهلكهم وعبر بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح وقيل المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ لما بين سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء وهي المذكورة في صدر السورة وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا وقد قدمنا في صدر السورة وجها آخر في تفسير هذه الرؤيا وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم أنه أسري به وقيل كانت رؤيا نوم وأن النبي صلى الله عليه و سلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ﴾ وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة وقيل إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فقيل إنما هي الدنيا أعطوها فسري عنه وفيه ضعف فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلا أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه و سلم أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا وقيل إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول : هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية ﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ عطف على الرؤيا قيل وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال جمهور المفسرين وهي شجرة الزقوم والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه :﴿ إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ﴾ وقال الزجاج : إن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعون ومعنى الفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله هذه الآية وروي أن أبا جهل أمر جارية
فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه : تزقموا وقال ابن الزبعري : كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن وقيل إن الشجرة الملعونة هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلها وهي شجرة الكشوث وقيل هي الشيطان وقيل اليهود وقيل بنو أمية ﴿ ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ﴾ أي نخوفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا متجاوزا للحد متماديا غاية التمادي فما يفيدهم إرسال الآيات إلا الزيادة في الكفر فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار وهو عذاب الاستئصال ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود في قوله :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ﴾ قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾ كلاهما يعني الفعلين بالياء التحتية وروي نحو هذا عن ابن مسعود من طرق أخرى وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرا وروي عنه من وجه آخر بلفظ عيسى وأمه وعزير وروي عنه أيضا من وجه آخر بلفظ : هم عيسى وعزير والشمس والقمر وأخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ سلوا الله لي الوسيلة قالوا وما الوسيلة ؟ قال القرب من الله ثم قرأ ﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ﴾ ] وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله :﴿ كان ذلك في الكتاب مسطورا ﴾ قال : في اللوح المحفوظ وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم قال : لا بل أستأني بهم فأنزل الله ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات ﴾ الآية وأخرج أحمد والبيهقي من طريق أخرى عنه نحوه وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال :[ قال الناس لرسول الله صلى الله عليه و سلم لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها ] واخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس ﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾ قال : الموت وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال : هو الموت الذريع وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ﴾ قال :
عصمك من الناس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : فهم في قبضته وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله :﴿ وما جعلنا الرؤيا ﴾ الآية قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس وليست برؤيا منام ﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ قال : هي شجرة الزقوم وأخرج أبو سعيد وأبو يعلى وابن عساكر عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أسرى به أصبح يحدث نفرا من قريش وهم يستهزئون به فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير فقال الوليد بن المغيرة : هذا ساحر فأنزل الله إليه ﴿ وما جعلنا الرؤيا ﴾ الآية وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده : وهذا السند ضعيف جدا وذكر من جملة رجال السند محمد بن الحسن بن
زبان وهو متروك وشيخه عبد المهيمن بن عباس ابن سهل بن سعد ضعيف جدا وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :[ رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة فأنزل الله ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة ﴾ ] يعني الحكم وولده وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء ] واهتم رسول الله صلى الله عليه و سلم لذلك فأنزل الله الآية وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي نحوه مرفوعا وهو مرسل وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه وهو مرسل وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم :[ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن ] وفي هذا نكارة لقولها يقول لأبيك وجدك ولعل جد مروان لم يدرك زمن النبوة وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال ناس : قد رد وقد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد تعارضت هذه الأسباب ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فيتعين ذلك وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا وفي تفسير الشجرة وأنها شجرة الزقوم فلا اعتبار بغيرهم معهم وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم شجرة الزقوم تخويفا لهم : يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ؟ قالوا لا قال : عجوة يثرب بالزبد والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقما قال الله سبحانه ﴿ إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم ﴾ وأنزل ﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ الآية وأخرج ابن المنذر عنه في قوله :﴿ والشجرة الملعونة ﴾ قال : ملعونة لأنه قال :﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ والشياطين ملعونون


الصفحة التالية
Icon