أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد الشرف فقال : ٥٨ - ﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ﴾ قال بعض المفسرين : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقال بعضهم : الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين والكل من سبيل الله ﴿ ثم قتلوا أو ماتوا ﴾ أي في حال المهاجرة واللام في ﴿ ليرزقنهم الله رزقا حسنا ﴾ جواب قسم محذوف والجملة خبر الموصول بتقدير القول وانتصاب رزقا على أنه مفقول ثان : أي مرزوقا حسنا أو على أنه مصدر مؤكدة والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع وقيل هو الغنيمة لأنه حلال وقيل هو العلم والفهم كقول شعيب ﴿ ورزقني منه رزقا حسنا ﴾ قرأ ابن عامر وأهل الشام ﴿ ثم قتلوا ﴾ بالتشديد على التكثير وقرأ الباقون بالتخفيف ﴿ وإن الله لهو خير الرازقين ﴾ فإنه سبحانه يرزق بغير حساب وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض فهو منه سبحانه لا رازق سواه ولا معطي غيره والجملة تذييل مقررة لما قبلها
وجملة ٥٩ - ﴿ ليدخلنهم مدخلا يرضونه ﴾ مستأنفة أو بدل من جملة ليرزقنهم الله قرأ أهل المدينة ﴿ مدخلا ﴾ بفتح الميم وقرأ الباقون بضمها وهو اسم مكان أريد به الجنة وانتصابه على أنه مفعول ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره فإن المدخل يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا ﴿ وإن الله لعليم ﴾ بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ﴿ حليم ﴾ عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة
والإشارة بقوله : ٦٠ - ﴿ ذلك ﴾ إلى ما تقدم قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ومعنى ﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ﴾ من جازى الظالم بمثل ما ظلمه وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ وقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه ومعنى ﴿ ثم بغي عليه ﴾ أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى قيل المراد بهذا البغي : هو ما وقع من المشركين من أزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به واللام في ﴿ لينصرنه الله ﴾ جواب قسم محذوف : أي لينصرن الله المبغي عليه على الباغي ﴿ إن الله لعفو غفور ﴾ أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو وقيل إن معنى ﴿ ثم بغي عليه ﴾ أي ثم كان المجازي مبغيا عليه : أي مظلوما ومعنى ثم تفاوت الرتبة لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب : البادي أظلم
وقيل إن هذه الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات