والثالث قوله : ٦٩ - ﴿ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ﴾ وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدم إلى التوبيخ بوجه آخر : أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك
والرابع قوله : ٧٠ - ﴿ أم يقولون به جنة ﴾ وهذا أيضا انتقال من توبيخ إلى توبيخ : أي بل أتقولون به جنة : أي جنون مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه وجحدوه تعصبا وحمية ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال :﴿ بل جاءهم بالحق ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول بل جاءهم ملتبسا بالحق والحق هو الدين القويم ﴿ وأكثرهم للحق كارهون ﴾ لما جبلوا عليه من التعصب والانحراف عن الصواب والبعد عن الحق فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر وظاهر النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفا من الكارهين له
وجملة ٧١ - ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية وهو معنى قوله :﴿ لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ﴾ قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسدي : الحق هو الله والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السموات والأرض وقال الفراء والزجاج : يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن : أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم وقيل المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ومثل ذلك قوله :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون ولكنه يرد عليه أن المراد به هنالك الله سبحانه فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله والمعنى : لو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد والمراد بقوله :﴿ ومن فيهن ﴾ من في السموات والأرض من المخلوقات وقرأ ابن مسعود وما بينهما وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدو فسدوا ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال :﴿ بل أتيناهم بذكرهم ﴾ والمراد بالذكر هنا القرآن : أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ومثله قوله :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ والمعنى : بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ويقبلوا عليه وقال قتادة : المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم وقيل المعنى : بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر أتيتهم بتاء المتكلم وقرأ أبو حيوة والجحدري أتيتهم بتاء الخطاب : أي أتيتهم يا محمد وقرأ عيسى بن عمر بذكراهم وقرأ قتادة تذكرهم بالنون والتشديد من التذكير وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير ﴿ فهم عن ذكرهم معرضون ﴾ أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره