وجملة ٤ - ﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية والمعنى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك ومعنى ﴿ فظلت أعناقهم لها خاضعين ﴾ أنهم صاروا مناقدين لها : أي فتظل أعناقهم إلخ قيل وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير لأن الأعناق موضع الخضوع وقيل إنها لما وضعت الأعناق موضع الخضوع وقيل إنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ووصفت بما يوصفون به قال عيسى بن عمر : خاضعين وخاضعة هنا سواء واختاره المبرد والمعنى : أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني ومنه قول الراجز :

( طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي )
فأخبر عن الليالي وترك الطول ومنه قول جرير :
( أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال )
وقال ابو عبيد والكسائي : إن المعنى خاضعيها هم وضعفه النحاس وقال مجاهد : أعناقهم كبراؤهم قال النحاس : وهذا معروف في اللغة يقال جاءني عنق من الناس : أي رؤساء منهم وقال أبو زيد والأخفش : أعناقهم جماعاتهم يقال جاءني عنق من الناس : أي جماعة
٥ - ﴿ وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ﴾ بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء ومن في من ذكر مزيدة لتأكيد العموم ومن في من ربهم لابتداء الغاية والاستثناء مفرغ من أعم العام محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء
٦ - ﴿ فقد كذبوا ﴾ أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرد الإعراض وقيل إن الإعراض وقيل إن الإعراض بمعنى التكذيب لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح والأول أولى فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات عن التكذيب إلى ما هو أشد منه وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله :﴿ فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ﴾ والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال ما كانوا به يستهزئون ولم يقل ما كانوا عنه معرضين أو ما كانوا به يكذبون لأن الاستهزاء أشد منهما ومستلزم لهما وفي هذا وعيد شديد وقد مر تفسير مثل هذا في سورة الأنعام ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها والناظر إليها والمستدل بها أعظم دليل وأوضح برهان


الصفحة التالية
Icon