ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال : ٢٢ - ﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ﴾ الأشارة بقوله هذا إلى ما رأوه من الجيوش أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم وهذا القول منهم قالوه استبشارا بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله و ما في ما وعدنا الله هي الموصولة أو المصدرية ثم أردفوا ما قالوه بقولهم :﴿ وصدق الله ورسوله ﴾ أي ظهر صدق خبر الله ورسوله ﴿ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ﴾ أي ما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وتسليما لأمره قال الفراء : ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانا وتسليما قال علي بن سليمان : رأى يدل على الرؤية وت
أنيث الرؤية غير حقيقي والمعنى : ما زادهم الرؤية إلا إيمانا للرب وتسليما للقضاء ولو قال ما زادتهم لجاز
٢٣ - ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴾ أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق ومحل ما عاهدوا الله عليه النصب بنزع الخافض والمعنى : أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة من الثبات معه والمقاتلة لمن قاتله بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله وهم المنافقون وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبتوا له ولم يفروا ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول في قوله :﴿ صدق الله ورسوله ﴾ بعد قوله :﴿ ما وعدنا الله ورسوله ﴾ هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر :
( أرى الموت لا يسبق الموت شيء )
وأيضا لو أضمرهما لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد وقال صدقا وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث بئس خطيب القوم أنت لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال :﴿ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ﴾ النحب : ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به ومنه قول الشاعر :

( عشية فر الحارثيون بعدما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر )
وقال الآخر :
( بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب )
أي على أمر عظيم والنحب يطلق على النذر والقتل والموت قال ابن قتيبة : قضى نحبه : أي قتل وأصل النحب النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا فقيل فلان قضى نحبه : أي قتل والنحب أيضا الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم : مالي عندهم نحب والنحب العهد ومنه قول الشاعر :
( لقد نحبت كلب على الناس أنهم أحق بتاج الماجد المتكرم )
وقال آخر :
( قد نحب المجد علينا نحبا )
ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر :
( أنحب فيقضى أم ضلال وباطل )
ومعنى الآية : أن من المؤمنين رجالا أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ﴿ ومنهم من ينتظر ﴾ قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم فإنه مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه و سلم والقتال لعدوه ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة وجملة ﴿ وما بدلوا تبديلا ﴾ معطوفة على صدقوا : أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه كما غير المنافقون عهدهم بل ثبتوا عليه ثبوتا مستمران أما الذي قضوا نحبهم فظاهر وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا


الصفحة التالية
Icon