ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال : ٣٢ - ﴿ يقول الذين استضعفوا ﴾ وهم الاتباع ﴿ للذين استكبروا ﴾ وهم الرؤساء المتبوعون ﴿ لولا أنتم ﴾ صددتمونا عن الإيمان بالله والاتباع لرسوله ﴿ لكنا مؤمنين ﴾ بالله مصدقين لرسوله وكتابه ﴿ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا ﴾ مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه ﴿ أنحن صددناكم عن الهدى ﴾ أي منعناكم عن الإيمان ﴿ بعد إذ جاءكم ﴾ الهدى قالوا هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصد لهم وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك ثم بينوا لهم أنهم الصادون لأنفسهم الممتنعون من الهدى بعد إذا جاءهم فقالوا :﴿ بل كنتم مجرمين ﴾ أي مصرين على الكفر كثيري الإجرام عظيمي الآثام
٣٣ - ﴿ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ﴾ ردا لما أجابوا به عليه ودفعا لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم ﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ أصل المكر في كلام العرب : الخديعة والحيلة يقال مكر به إذا خدعه واحتال عليه والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم الظرف مقام اتساعا وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار قال النحاس : المعنى والله أعلم بل مكركم في الليل والنهار ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني قال المبرد كما تقول العرب : نهاره صائم وليله قائم وأنشد قول جرير :

( لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وماليل المطي بنائم )
وأنشد سيبويه :
( قيام ليلي وتجلي همي )
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر برفع مكر منونا ونصب اللل والنهار والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار وقرأ سعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء مضافا بمعنى الكرور من كر يكر إذا جاء وذهب وارتفاع مكر على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره محذوف : أي مكر الليل والنهار صدنا أو على أنه فاعل لفعل محذوف : أي صدنا مكر الليل والنهار أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدم عن الأخفش وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير ولكنه نصب مكر على المصدرية : أي بل تكررن الإغواء مكرا دائما لا تفترون عنه وانتصاب ﴿ إذ تأمروننا ﴾ على أنه ظرف للمكر : أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا ﴿ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ﴾ أي أشباها وأمثالا قال المبرد : يقال ند فلان فلان : أي مثله وأنشد :
( أتيما تجعلون إلي ندا وما تيم بذي حسب نديد )
والضمير في قوله :﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾ راجع إلى الفريقين : أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخافاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة وقيل المراد بأسروا هنا أظهروا لأنه من الأضداد يكون تارة بمعنى الإخفاء وتارة بمعنى الإظهار ومنه قول امرئ القيس :
( تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراص لويسرون مقتلي )
وقيل معنى أسروا الندامة : تبينت الندامة في أسرة وجوههم ﴿ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ﴾ الأغلال جمع غل يقال في رقبته غل من حديد : أي جعلت الأغلال من الحديد في أغناق هؤلاء في النار والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقا والإظهار لمزيد الذم أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا ﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ أي إلا جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله أو إلا بما كانوا يعملون على حذف الخافض
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ قال : إلى الناس جميعا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له وأخرج هؤلاء عنه في قوله :﴿ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ﴾ قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء


الصفحة التالية
Icon