ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الإيضاح فقال : ٢٣ - ﴿ أأتخذ من دونه آلهة ﴾ فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه وهم المرادون به : أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارا عليهم وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال :﴿ إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ﴾ أي شيئا من النفع كائنا ما كان ﴿ ولا ينقذون ﴾ من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به وهذه الجملة صفة لآلهة أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع وقوله :﴿ لا تغن ﴾ جواب الشرط وقرأ طلحة بن مصرف إن يردني بفتح الياء
قال : ٢٤ - ﴿ إني إذا لفي ضلال مبين ﴾ أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح وهذا تعريض بهم كما سبق والضلال الخسران
ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال : ٢٥ - ﴿ إني آمنت بربكم فاسمعون ﴾ خاطب بهذا الكلام المرسلين قال المفسرون : أرادوا القوم قتله فأقبل هو على المرسلين فقال : إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون : أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين وتشددا في الحق فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه وقيل وطئوه بأرجلهم وقيل حرقوه وقيل حفروا له حفيرة وألقوه فيها وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة وبه قال الحسن وقيل نشروه بالمنشار
٢٦ - ﴿ قيل ادخل الجنة ﴾ أي قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى : أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل وقيل له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها ﴿ قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ﴾ والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر : أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها فقيل قال يا ليت قومي إلخ
و ما في ٢٧ - ﴿ بما غفر لي ﴾ هي المصدرية : أي بغفران ربي وقيل هي الموصولة : أي بالذي غفر لي ربي والعائد محذوف : أي غفر ربي واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له وقال الفراء : إنها استفهامية بمعنى التعجب كأنه قال : بأي شيء غفر لي ربي قال الكسائي : لو صح هذا لقال بمن من غير ألف ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها وإن كان مكسورا بالنسبة إلى حذفها ومنه قول الشاعر :

( على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في دمان )
وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته إرغاما لهم وقيل إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله :﴿ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية ﴾ قال : هي أنطاكية وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله :﴿ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ﴾ والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله :﴿ طائركم معكم ﴾ قال : شؤمكم معكم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله :﴿ وجاء من أقصى المدينة رجل ﴾ قال : هو حبيب النجار وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر قال اسم صاحب يس : حبيب وكان الجذام قد أسرع فيه وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال : لما قال صاحب يس ﴿ يا قوم اتبعوا المرسلين ﴾ خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال :﴿ إني آمنت بربكم فاسمعون ﴾ أي فاشهدوا لي


الصفحة التالية
Icon