لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالا فيما تقدم ذكرها هنا تفصيلا فقال : ٧١ - ﴿ إذ قال ربك للملائكة ﴾ إذ هذه هي بدل من ﴿ إذ يختصمون ﴾ لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة وقيل : هي منصوبة بإضمار اذكر والأول إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره فالثاني أولى ﴿ إني خالق بشرا من طين ﴾ أي خالق فيما سيأتي من الزمن بشرا : أي جسما من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض أو من كونه بادي البشرة وقوله ﴿ من طين ﴾ متعلق بمحذوف هو صفة لبشر أو بخالق
ومعنى ٧٢ - ﴿ فإذا سويته ﴾ صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية ﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري وقيل هو تمثيل ولا نفخ ولا منفوخ فيه والمراد جعله حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه وقد مر الكلام في هذا في سورة النساء ﴿ فقعوا له ساجدين ﴾ هو أمر من وقع يقع وانتصاب ساجدين على الحال والسجود هنا هو سجوز التحية لا سجود العبادة وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة
٧٣ - ﴿ فسجد الملائكة ﴾ في الكلام حذف تدل عليه الفاء والتقدير : فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة وقوله :﴿ كلهم ﴾ يفيد أنهم سجدوا جميعا ولم يبق منهم أحد وقوله :﴿ أجمعون ﴾ يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد : فالأول لقصد الإحاطة والثاني لقصد الاجتماع قال في الكشاف : فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم
٧٤ - ﴿ إلا إبليس ﴾ الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفا بصفات الملائكة داخلا في عدادهم فغلبوا عليه أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم : أي لكن إبليس ﴿ استكبر ﴾ أي أنف من السجود جهلا منه بأنه طاعة لله ﴿ و ﴾ كان استكباره استكبار كفر فلذلك ﴿ كان من الكافرين ﴾ أي صار منهم بمخالفته لأمر الله واستكباره عن طاعته أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه
ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فـ ٧٥ - ﴿ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة وأضاف خلقه إلى نفسه تكريما له وتشريفا مع أنه سبحانه خالق كل شيء أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد قال مجاهد : اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازا كقوله :﴿ ويبقى وجه ربك ﴾ وقيل أراد باليد القدرة يقال : مالي بهذا الأمر يد ومالي به يدان : أي قدرة ومنه قول الشاعر :

( تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد ولا للجبال الراسيات يدان )
وقيل التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى القوة والقدرة بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه و ما في قوله لما خلقت هي المصدرية أو الموصولة وقرأ الجحدري لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين كما قال أبو علي الفارسي وقرئ بيدي على الإفراد ﴿ أستكبرت ﴾ قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام وهو استفهام توبيخ وتقريع و ﴿ أم ﴾ متصلة وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بألف وصل ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :
( تروح من الحي أم تبتكر )
وقول الآخر :
( بسبع رمين الجمر أم بثمانيا )
ويحتمل أن يكون خبرا محضا من غير إرادة للاستفهام فتكون أم منقطعة والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أ ﴿ كنت من العالين ﴾ أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك وقيل المعنى : استكبرت عن السجود الآن أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك


الصفحة التالية
Icon