ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه و سلم إضرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان لا بأن يهدي من ضل فقال : ٤١ - ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس ﴾ أي لأجلهم ولبيان ما كلفوا به و ﴿ بالحق ﴾ حال من الفاعل أو المفعول : أي محقين أو متلبسا بالحق ﴿ فمن اهتدى ﴾ طريق الحق وسلكها ﴿ فلنفسه ومن ضل ﴾ عنها ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي على نفسه فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره ﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي بمكلف بهدايتهم مخاطب بها بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال : ٤٢ - ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان ﴿ والتي لم تمت في منامها ﴾ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت : أي لم يحضر أجلها في منامها
وقد اختلف في هذا فقيل يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال : وقد يكون توفيها نومها فيكون التقدير على هذا : والتي لم تمت وفاتها نومها قال الزجاج : لكل إنسان نفسان : أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس قال القشيري : في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال :﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى ﴾ أي النائمة ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو الوقت المضروب لموته وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف ﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى ﴾ فيعيدها والأولى أن يقال إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها قيل ومعنى ﴿ يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ هو على حذف مضاف : أي عند موت أجسادها
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان ؟ والكلام في ذلك يطول جدا وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن قرأ الجمهور قضى مبنيا للفاعل : أي قضى الله عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله :﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾ والإشارة بقوله :﴿ إن في ذلك ﴾ إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس ﴿ لآيات ﴾ أي لآيات عجيبة بديع دال على القدرة الباهرة ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ الآية قال : نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فيتوفى الله النفس في منامها ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في الآية قال : تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء في أجسادهم ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ لا يغلط بشيء منها فذلك قوله ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في الآية قال : كل نفس لها سبب تجري فيه فإذا قضي عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب والتي لم تمت في منامها تترك وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إذا أوى أحدكم إلى فراشه لينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ]