ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم فقال : ٢٨ - ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ بترك ما نهاكم عنه ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ محمد صلى الله عليه و سلم ﴿ يؤتكم كفلين من رحمته ﴾ أي نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل وأصل الكفل الحظ والنصيب وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء ﴿ ويجعل لكم نورا تمشون به ﴾ يعني على الصراط كما قال :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم ﴾ وقيل المعنى : ويجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به ﴿ ويغفر لكم ﴾ ما سلف من ذنوبكم ﴿ والله غفور رحيم ﴾ أي بليغ المغفرة والرحمة
٦ - ﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴾ أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر قرأ الجمهور ﴿ أستغفرت ﴾ بهمزة مفتوحة من غير مد وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة أم عليها وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف ﴿ لن يغفر الله لهم ﴾ أي ما داموا على النفاق ﴿ إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ أي الكاملين في الخروج عن الطاعة والانهماك في معاصي الله ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوليا
ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال : ٧ - ﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ أي حتى يتفرقوا عنه يعنون بذلك فقراء المهاجرين والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرة الله لهم قرأ الجمهور ﴿ ينفضوا ﴾ من الانفضاض وهو التفرق وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم : إذا فنيت أزوادهم يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال :﴿ ولله خزائن السموات والأرض ﴾ أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء ﴿ ولكن المنافقين لا يفقهون ﴾ ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز و جل وأنه الباسط القابض المعطي المانع
ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال : ٨ - ﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنفاقين وعنى بالأعز نفسه ومن معه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من سامعون له مطيعون ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين ﴿ ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ بما فيه النفع فيفعلونه وبما فيه الضر فيجتنبونه بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال :[ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه ﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ من حوله وقال :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذا جاءك المنافقون فدعاهم النبي صلى الله عليه و سلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم وهو قوله :﴿ كأنهم خشب مسندة ﴾ قال : كانوا رجالا أجمل شيء ] وأخرج عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان وأخرج ابن المنذر عنه ﴿ اتخذوا أيمانهم جنة ﴾ قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا ﴿ كأنهم خشب مسندة ﴾ قال نخل قيام وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا قال نزلت هذه الآية ﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ في عسيف لعمر بن الخطاب وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ ﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ﴾ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال :[ كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في غزاة قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الأنصاري ياللأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه و سلم : ما بال دعوة الجاهلية ؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : دعوها فإنها منتنة فسمع ذلك عبد الله بن أبي فقال : أو قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ] زاد الترمذي [ فقال له ابنه عبد الله : والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله العزيز ففعل ]


الصفحة التالية
Icon