لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر بين أيضا أن في الجن كذلك فقال : ٢٨ - ﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ﴾ العامل في الظرف مقدر : أي واذكر إذ صرفنا أي وجهنا إليك نفرا من الجن وبعثناهم إليك وقوله :﴿ يستمعون القرآن ﴾ في محل نصب صفة ثانية لنفرا أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى ﴿ فلما حضروه ﴾ أي حضروا القرآن عند تلاوته وقيل حضروا النبي صلى الله عليه و سلم ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أولى ﴿ قالوا أنصتوا ﴾ أي قال بعضهم لبعض اسكتوا أمروا بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا ﴿ فلما قضي ﴾ قرأ الجمهور ﴿ قضي ﴾ مبنيا للمفعول : أي فرغ من تلاوته وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ولاحق بن حميد وأبو مجلز على البناء للفاعل : أي فرغ النبي صلى الله عليه و سلم من تلاوته والقراءة أولى تؤيد أن الضمير في حضروه للقرآن والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه و سلم ﴿ ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ أي انصرفوا قاصدين إلى ما وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم وانتصاب : منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك
٢٩ - ﴿ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾ يعنون القرآن وفي الكلام حذف والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا ﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي لما قبله من الكتب المنزلة ﴿ يهدي إلى الحق ﴾ أي إلى الدين الحق ﴿ وإلى طريق مستقيم ﴾ أي إلى طريق الله القويم قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه و سلم
٣٠ - ﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه و سلم أو القرآن ﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ أي بعضها وهو ما عدا حق العباد وقيل إن من هنا لابتداء الغاية والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى وقيل هي زائدة ﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾ وهو عذاب النار وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي وقال الحسن ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار وبه قال أبو حنيفة والأول أولى وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وعلى القول الأول فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا كما يقال للبهائم والثاني أرجح وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فامتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ولا ينافي هذا الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل ومما يؤيده هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة وجزاء من عمل الصالحات الجنة وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ﴾ وقال :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ﴾ وقال سبحانه في إبراهيم الخليل :﴿ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ﴾ فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته وأما قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ فقيل المراد من مجموع الجنسين وصدق على أحدهما وهم الإنس : كقوله :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ أي من أحدهما