ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين قال : ٢ - ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ﴾ ظاهر هذا العموم فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ولا يمنع من ذلك خصوص سببها فقد قيل إنها نزلت في الأنصار وقيل في ناس من قريش وقيل في مؤمني أهل الكتاب ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيها على شرفه وعلو مكانه وجملة ﴿ وهو الحق من ربهم ﴾ معترضة بين المبتدأ وهو قوله :﴿ والذين آمنوا ﴾ وبين خبره وهو قول :﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله وقوله :﴿ من ربهم ﴾ في محل نصب على الحال ومعنى كفر عنهم سيئاتهم : أي السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح ﴿ وأصلح بالهم ﴾ أي شأنهم وحالهم قال مجاهد : شأنهم وقال قتادة : حالهم وقيل أمرهم والمعاني متقاربة قال المبرد : البال الحال هاهنا قيل والمعنى : أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم وأرشدهم إلى أعمال الخير وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ونحو ذلك وقال النقاش : إن المعنى أصلح نياتهم ومنه قول الشاعر :


والإشارة بقوله : ٣ - ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار ووعد به المؤمنين وهو مبتدأ خبره ما بعده وقيل إنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك بـ سبب ﴿ أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم ﴾ فالباطل الشرك والحق التوحيد والإيمان والمعنى : أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم بسبب اتباعهم للحق الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان وعمل الطاعات ﴿ كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ﴾ أي مثل ذلك الضرب بين للناس أمثالهم : أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة قال الزجاج :﴿ كذلك يضرب ﴾ بين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين : يعني أن من كان كافرا أضل الله عمله ومن كان مؤمنا كفر الله سيئاته
٤ -﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ﴾ لما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار والمراد بالذين كفروا المشكرين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب وانتصاب فضرب على أنه مصدر لفعل محذوف قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها وقيل هو منصوب على الإغراء قال أبو عبيدة : هو كقولهم : يا نفس صبرا وقيل التقدير : اقصدوا ضرب الرقاب وقيل إنما خص ضرب الرقاب لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل وهي حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأحسن أعضائه ﴿ حتى إذا أثخنتموهم ﴾ أي بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية القتل وهو مأخوذ من الشيء الثخين : أي الغليظ وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال ﴿ فشدوا الوثاق ﴾ الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر : اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط قال الجوهري : وأوثقه في الوثاق : أي شده قال : والوثاق بكسر الواو لغة فيه قرأ الجمهور ﴿ فشدوا ﴾ بضم الشين وقرأ السلمي بكسرها وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا ينفلتوا والمعنى : إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق ﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا أو تفدوا فداء والمن : الإطلاق بغير عوض والفداء : ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم قرأ الجمهور ﴿ فداء ﴾ بالمد وقرأ ابن كثير ﴿ فهدى ﴾ بالقصر وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ولهذا كانت العرب تفتخر به كما قال شاعرهم :
( فإن تقبلي بالود أقبل بمثله وإن تدبري أذهب إلى حال باليا )
( ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم )
ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال :﴿ حتى تضع الحرب أوزارها ﴾ أوزار الحرب التي لا تقوم إلا بها من السلام والكراع أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز والمعنى : أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار قال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام وبه قال الحسن والكلبي قال الكسائي : حتى يسلم الخلق : قال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر وقيل المعنى : حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير والمعنى : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق
وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل إنها منسوخة في أهل الأوثان وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم والناسخ لها قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ وقوله :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ﴾ وقوله :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريح وكثير من الكوفيين : قالوا : والمائدة آخر ما نزل فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن تؤخذ منه الجزية وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة وقيل إن هذه الآية ناسخة لقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ روي ذلك عن عطاء وغيره وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة والإمام مخير بين القتل والأسر وبعد الأسر مخير بين المن والفداء وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره ﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ﴾ محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك وقيل في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل : أي افعلوا ذلك ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ما تقدم : أي ذلك حكم الكفار ومعنى لو يشاء الله لانتصر منهم : أي قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب ﴿ ولكن ﴾ أمركم بحربهم ﴿ ليبلو بعضكم ببعض ﴾ أي ليتخير بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين في سبيله والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ويعذب الكفار بأيديهم ﴿ والذين قتلوا في سبيل الله ﴾ قرأ الجمهور ﴿ قاتلوا ﴾ مبنيا للفاعل وقرأ أبو عمرو وحفص ﴿ قتلوا ﴾ مبنيا للمفعول وقرأ الحسن بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا وقرأ الجحدي وعيسى بن عمر وأبو حيوة قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف والمعنى على القراءة الأولى والرابعة : أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع وعلى القراءة الثانية والثالثة : أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضع الله سبحانه أجرهم قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد


الصفحة التالية
Icon