٦ - ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ قرأ الجمهور ﴿ فتبينوا ﴾ من التبين وقرأ حمزة والكسائي ﴿ فتبينوا ﴾ من التثبت والمراد من التبين التعرف والتفحص ومن التثبت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الويد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله وقوله :﴿ أن تصيبوا قوما بجهالة ﴾ مفعول له : أي كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا أو لئلا تصيبوا لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يثبت فيه هو الغالب وهو جهالة لأنه لم يصدر عن علم والمعنى : ملتبسين بجهالة بحالهم ﴿ فتصبحوا على ما فعلتم ﴾ بهم من إصابتهم بالخطأ ﴿ نادمين ﴾ على ذلك مغتمين له مهتمين به
ثم وعظهم الله سبحانه فقال : ٧ - ﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله ﴾ فلا تقولوا قولا باطلا ولا تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين وأن وما في حيزها سادة مسد مفعولي اعلموا وجملة ﴿ لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير فيكم أو مستأنفة والمعنى : لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت وهو التعب والجهد والإثم والهلاك ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه ﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان ﴾ أي جعله أحب الأشياء إليكم أو محبوبا لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع في الأخبار وعدم التثبت فيها قيل والمراد بهؤلاء من عدا الأولين لبيان براءتهم عن أوصاف الأولين والظاهر أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم ﴿ وزينه في قلوبكم ﴾ أي حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال ﴿ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم وأصل الفسق الخروج عن الطاعة والعصيان جنس ما يعصى الله به وقيل أراد بذلك الكذب خاصة والأول أولى ﴿ أولئك هم الراشدون ﴾ أي الموصوفون بما ذكرهم الراشدون والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب مع الرشادة : وهي الصخرة
٨ - ﴿ فضلا من الله ونعمة ﴾ أي لأجل فضله وإنعامه والمعنى : أنه حبب إليكم ما حبب وكره ماكره لأجل فضله وإنعامه أو جعلكم راشدين لأجل ذلك وقيل النصب بتقدير فعل : أي تبتغون فضلا ونعمة ﴿ والله عليم ﴾ بكل معلوم ﴿ حكيم ﴾ في كل ما يقضي به بين عباده ويقدر لهم
وقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله بن الزبير قال :[ قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس فقل أبو بكر ما أردت إلا خلافي فقال عمر : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ حتى انقضت الآية ] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله :﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه وأخرج ابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت : كان أناس يتقدمون بين يدي رمضان بصيام : يعني يوما أو يومين فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ وأخرج الطبراني وابن مردويه عنها أيضا أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الآية وأخرج البزار وابن عدي والحاكم وابن مردويه عن أبي بكر الصديق قال : أنزلت هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ قلت : يا رسول الله : والله لا أكلمك إلا كأخي السرار وفي إسناده حصين بن عمر وهو ضعيف ولكنه يؤيده ما أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : لما نزلت ﴿ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ﴾ قال أبو بكر : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال :[ لما نزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ إلى قوله :﴿ وأنتم لا تشعرون ﴾ وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه و سلم حبط عملي أنا من أهل النار وجلس في بيته حزينا ففقده رسول الله صلى الله عليه و سلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا : فقدك رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأخبروه بذلك فقال : لا بل هو من أهل الجنة فلما كان يوم اليمامة قتل ] وفي الباب أحاديث بمعناه وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله :﴿ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ الآية : قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس : وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله :﴿ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ﴾ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : منهم ثابت بن قيس بن شماس وأخرج أحمد وابن جرير وأبو القاسم والغوي والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس [ أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال ذاك الله فأنزل الله :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ ] قال ابن منيع : لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ﴾ قال : جاء رجل فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذاك الله وأخرج ابن راهويه ومسدد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي : بإسناد حسن عن زيد بن أرقم قال : اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به وإن يك ملكا نعش بجناحه فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بما قالوا فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه يا محمد يا محمد فأنزل الله :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ﴾ فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بأذني وجعل يقول : لقد صدق الله قولك يا زيد لقد صدق الله قولك يا زيد وفي الباب أحاديث وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه قال السيوطي بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا سروات قومه فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله إلى من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله وبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث ؟ فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم ؟ قالوا إليك قال ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسزل رسول الله صلى الله عليه و سلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ﴾ إلى قومه :﴿ حكيم ﴾ قال ابن كثير : هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص


الصفحة التالية
Icon