وأود أن أشير في هذا المقام إلى أن التوجيه إلى هذا الأدب لا يقتصر على رفع الصوت الحسي في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما ونحن نعلم أن من أساليب الخطاب الشرعي التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ بمعنى أنه إذا كان مجرد رفع الصوت الحسي محرماً ومدعاةً لحبوط الأعمال كما هو ظاهر النص فلأن يرفع الإنسان صوت عقله وأفكاره على ما جاء به النبي ﷺ أشد حرمةً وقبحاً في ميزان الشرع، تأمل معي قول عمر بن الخطاب ذاماً هؤلاء : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنة، أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين يُسألوا أن يقولوا : لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم(١)، فلا شك أن هذا الأدب الحسي منبهٌ على ما هو فوقه من الآداب، تماماً كما أن تحريم قول أفٍ للأبوين دالٌ على تحريم ما هو فوقه من ضرب وأذى معنوي وإن لم تصرح به الآية(٢)
ويلاحظ أن السورة الكريمة سلكت مسلك الأمر والنهي في تقرير هذا الأدب؛ فنهت عن رفع الصوت من جهة، وأمرت بغض الصوت بين يدي النبي ﷺ من جهة أخرى، ولم تقف الآية الكريمة عند هذا الحد بل أكدت على أن تحقيق هذا الأدب هو المعيار الحقيقي لتمكن التقوى من قلب المرء، قال تعالى :" إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى"(٣)، وهذا النص يدل بمفهوم المخالفة على أن الذين لا يغضون أصواتهم عند رسول الله لم تتمحض التقوى في قلوبهم تمام التمحض، بل ربما لم تكن أهلاً للتقوى ولا محلاً قابلاً لها والعياذ بالله.
ثالثاً: تحريم الجهر بالقول للنبي ﷺ :
(٢) أعني قوله تعالى:" فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما" الإسراء – آية ٢٣
(٣) سورة الحجرات – آية ٣