وهنا أمر مهم جداً وهو أنه لما كان معيار التفاضل المعتبر شرعاً هو التقوى ختمت الآية بقوله تعالى:"إن الله عليم خبير"(١)لتنبه إلى أن الله تعالى هو الذي يعلم المتقين من غيرهم، فقطعت بذلك الطريق على أي فرد يريد أن يتفاضل على غيره ولو في هذا المعيار، إذ ليس المقصود من تحديد التقوى معياراً للتفاضل أن يهزأ الناس بعضهم ببعض أو يستبيحوا غيبتهم أو لمزهم أو نحو ذلك لأنهم دونهم في التقوى، وإنما المقصود كف الناس عن بعضهم البعض وردهم في التفاضل إلى علم الله تعالى لأنه هو سبحانه وحده الذي يعلم المتقي على الحقيقة من غيره، ولقد جاء ذلك بوضوح تام في سورة النجم حيث قال تعالى:" فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"(٢)
ثالثاً: تحرير أسماء الدين:
لما ردت الآية الناس إلى معيار التقوى وكان من المشاهد ادعاء بعض الناس لأنفسهم مراتب ليست لهم على الحقيقة كان من اللازم بيان مراتب الإيمان والتنبيه على الفرق بين الإسلام والإيمان وأن تحقيق هذه الأسماء لا يكون بالتمني والدعوى وإنما باستكمال المقدمات والأعمال، تأمل معي قوله تعالى:"قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم"(٣)قال الحافظ ابن كثير :"والصحيح أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد فأُدبوا وأُعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد"(٤)، قلت: ثم بينت السورة ما يلزم لتحقيق مرتبة الإيمان فقال تعالى:"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"(٥)فبدأت الآية بلفظ "إنما" وهو من أساليب الحصر(٦)لتحدد من هم المؤمنون الكُمَّل وليقف كل فرد عند حده فلا يدعي لنفسه مرتبة ليست له.

(١) سورة الحجرات – آية ١٣
(٢) سورة النجم - ٣٢
(٣) سورة الحجرات – آية ١٤
(٤) تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – ٥١٨/٧
(٥) سورة الحجرات – آية ١٥
(٦) البلاغة الوافية - ١٧٤


الصفحة التالية
Icon