ولقد ورد هذا النهي صريحاً في قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي"(١)وفهمه الصحابة فهماً ظاهراً وتمثلوه سلوكاً عملياً لازماً لهم، وتأمل معي هذين النموذجين الذين يجسدان سرعة استجابة وامتثال الصحابة لأوامر الشرع، فبعد حديث ابن أبي مليكة السابق جاء : قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمِع رسول الله ﷺ بعد هذه الآية حتى يستفهمه(٢)قلت: وهذا مبالغة منه رضي الله عنه في امتثال النهي والتزام الأدب معه صلى الله عليه وسلم. ثم انظر إلى النموذج الآخر في هذا الحديث : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرٌ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي ﷺ فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي ﷺ فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى(٣): فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال :" اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة"(٤)، وهذه المواقف إن دلت على شيء فإنما تدل على لزوم هذا الفهم الظاهر وأن المنهي عنه هو رفع الصوت الحسي حقيقةً، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم ثابروا على هذا الأدب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله ﷺ قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف. فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.(٥)

(١) سورة الحجرات – آية ٢
(٢) فتح الباري – ابن حجر العسقلاني- ٥٥٥/٩
(٣) هو موسى بن أنس راوي الحديث عن أنس
(٤) فتح الباري – ابن حجر العسقلاني – ٥٦٦/٩
(٥) تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – ٤٩١/٧


الصفحة التالية
Icon