وكذلك لما ذكر الله - عز وجل - عن زكريا -عليه السلام- أنه جعل الله له آية ألا يكلم الناس ثلاثة أيام ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ﴾ (١) فالإيحاء هذا فيه معنى، ومع ذلك لم يكن مخالفا للآية التي أوتيها زكريا -عليه السلام-، ومن ذلك أيضا ما ورد في الحديث أن النبي - ﷺ - قال: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " ومع ذلك جعل ما يرد على النفوس من المعاني لا يبطل الصلاة، بخلاف الألفاظ، ومن ذلك ما أجمع عليه العلماء أن من حلف لا يتكلم، فإنه لا يحنث إلا بصدور الأصوات والحروف، فلو كان في نفسه معانٍ لم يتكلم بها، ولم يصدر بها أصواتا، فإنه لا يسمى متكلما؛ ولذلك قال النبي - ﷺ - :" أن الله قد تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تتكلم " فدل ذلك على أن الكلام مخالف لما في النفس من المعاني والأحاديث.
ثم بعد ذلك ذكر المؤلف أقوال المخالفين، فذكر الطائفة الأولى قال: وبدعوا، يعني أن من قال هذه المقالات، فإن قوله: بدعة مخالفة للشريعة، وضلالة القول الأول، أن كلام الله هو ما فاض على النفوس، من العقل الفعال أو غيره، وهذا قول الفلاسفة والصابئة، والفلاسفة: هم من يتكلمون في حقائق الأشياء، هذا هو المراد بالفلسفة والصابئة، يعني الذين خرجوا عن الديانات، وعن وحي الأنبياء، هذا هو المراد بالصابئة، فالفلاسفة والصابئة يقولون: إن كلام الله هو المعاني التي تفيض على النفوس، وهم في الحقيقة لا يخصونه بالأنبياء، بل يقولون: إن كلام الله يفيض على جميع النفوس، ولا يختص بالأنبياء، فتخصيص المؤلف لقولهم بالأنبياء فيه ما فيه، ليس صحيحا، ولا شك أن هذا القول ضلالة، وأنه خطأ، يدل على خطئه أن الله أرسل الأنبياء إلى الناس، فلو كان كلام الله يحصل بما يفيض على النفوس، لم يحتج إلى إرسال الأنبياء.