وهذا القول الثاني قال به جماهير الصحابة، وقد رجحه جماعة وقالوا بأن نصوص القرآن تدل عليه، وقول الصحابي لا يعمل به إذا كان قد خالفه غيره وظواهر القرآن تدل على خلافه، ولا مانع أن يكون كل من القولين صحيحا؛ إذ لا تعارض بينهما، فإن إنزال القرآن جملة واحدة كان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ولا يمنع هذا من كون جبريل -عليه السلام- قد سمع القرآن من الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك.
وقول المؤلف: "وأنزل منجما بحسب الوقائع" يعني: أن جبريل ينزل بالقرآن على النبي - ﷺ - مفرقا على وفق أسباب النزول، وليس معناه: أن جبريل نقله من الكتاب الموجود في السماء الدنيا، بل الصواب: أن جبريل -عليه السلام- قد سمعه من الله -سبحانه وتعالى.
ومن هنا نعلم خطأ بعض المؤلفين عندما قال: إن جبريل نقله من اللوح المحفوظ أو نقله من هذا المكتوب الموجود في السماء الدنيا في بيت العزة، هذا قول خاطئ مخالف لما دلت عليه النصوص الشرعية، والله -سبحانه وتعالى- لا يمتنع أن يكون قد أنزله ثم يتكلم به بعد ذلك، لا مانع من هذا فإن القرآن موجود في اللوح المحفوظ الذي سجل فيه ما في الدنيا، ومع ذلك أنزله الله -سبحانه وتعالى- من عنده إلى السماء الدنيا.
ويدل على ذلك أن الله - عز وجل - ذكر بعض أفعال العباد بصيغة الماضي مما يدل على أنه لم يتكلم به إلا بعد فعلهم لذلك الفعل، ومنه قوله -سبحانه: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ (١) فالسماع إخبار عن أمر ماض، والمجادلة أمر ماض ويستحيل أن يتكلم الله -سبحانه وتعالى- بما سيأتي بهذه الصيغة، مما يدل على أن قوله -سبحانه- وكلامه بذلك إنما حصل بعد حصول السماع والمجادلة.