وأما قوله تعالى :" وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا " فلا يخلو أهلكناها من أن يكون خبراً أو صفة فالذي يقوى الخبر قوله تعالى : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ".
وقوله تعالى :" وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ".
فكما أن كم في هذه المواضع محمولة على أهلكنا كذلك إذا شغل عنها الفعل بالضمير ترتفع بالابتداء مثل زيداً ضربت وزيد ضربته.
ومن قال : زيدا ضربته كان قوله تعالى :" وكم من قرية أهلكناها " كم في موضع النصب.
فإن قلت : فما وجه دخول الفاء في قوله فجاءها بأسنا والبأس لا يأتي المهلكين إنما يجيئهم البأس قبل الإهلاك ومن مجئ البأس يكون الإهلاك فإنه يكون المعنى في قوله أهلكناها قربت من الهلاك ولم تهلك بعد ولكن لقربها من الهلاك ودنوها وقع عليها لفظ الماضي لمقاربتها له وإحانته إياها.
ونظير هذا قولهم : قد قامت الصلاة إذا كان المقيم مفرداً وإن لم تقع التحريمة بها للقرب من التحريمة بها.
ومنه قول رؤبة : يا حكم الوارث عن عبد الملك أوديت إن لم تحب حبو المعتنك فأوقع لفظ الماضي على الهلاك لمقاربته منه ومراده الآتي.
ألا ترى أنك لا تقول : أتيتك إن قمت وإنما تقول : آتيك إن قمت.
فمن حيث كان معناه الآتي قال : إن لم تحب ومن حيث قارب ذاك أوقع عليه لفظ الماضي وكأن المعنى : كم من قرية قاربت الهلاك فجاءها البأس ليلاً أو نهاراً فأهلكناها خبر على هذا.
وقوله فجاءها معطوف.
فإن جعلت أهلكناها صفة للقرية ولم تجعله خبراً ف كم في المعنى هي القرية.
فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم إذ كان كم في المعنى هو القرية.
ويدلك على ذلك قوله تعالى :" وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً فعاد الذكر على كم على المعنى إذ كانت الملائكة في المعنى.