ثم نرجع إلى الفرق بين مواقع القسم المحمودة وغير المحمودة حتى يتبين أن النهي المطلق غير صحيح.
فهذه ثلاثة مقاصد يتوجه إليها الكلام في كتابنا هذا. وإذ هي تقتضي بعض التفاصيل والبسط في الكلام دعينا إلى أن نبحث عن تاريخ القسم وحاجة الناس إليه قديماً وحديثاً وطرقه المتنوعة، ونبين معاني كلمات القسم ومفهومه الأصلي ومفاهيمه المتشعبة الثلاثة من الإكرام والتقديس والاستدلال المجرد عن التعظيم.
ونورد من نفس القرآن دلائل واضحة على تأويل أقسامه. وندل على أسباب خفاء هذا التأويل ليتضح عذر من قبلنا من كبار العلماء رحمهم الله. ونشير إلى بعض وجوه البلاغة في أقسام القرآن.
ثم نذكر وجوه النهي والإباحة، والاستحسان في القسم. ونكشف عن تأويل قول المسيح عليه السلام حين نهى تلاميذه عن الحلف.
ونلمع إلماعاً إلى بعض بلاغة القرآن في تمييزه بين كلمات القسم حسب مواقعه لتعلم ما لا يحسن منه.
ذلك، وقد ذكرنا فيما قدمنا جل مطالب هذا الكتاب إجمالاً، فالآن نشرع في التفصيل، والله الموفق ونعم الوكيل.
(٦)
تاريخ القسم وحاجة الناس إليه
وطرقه المختلفة والدلالة على حقيقة معناه في أول الأمر
إن الإنسان ربما يحتاج إلى تأكيد خبر أو وعد منه، حين يريد أن يعتمد عليه المخاطب وتطمئن به نفسه، ولا سيما في الأمور العظيمة كالمعاهدة بين قوم وقوم أو بين ملك ورعيته أو بين أفراد الناس، ليكونوا على ثقة بعضهم من بعض، فيعلموا الموافق من المخالف والوليَّ من العدو. وهذه الحاجة التمدنية دعتهم إلى طرق وكلمات خاصة يعبرون بها عن هذا التأكيد. فكان ذلك أصل قسمهم.
فربما عبروا عنه بأخذ اليمين كما علمنا من أحوال الروم والعرب والعبرانيين. فإذا أخذ بعضهم يمين بعض عند المعاهدة أفصحوا بعزمهم وتأكيده. كأنهم قالوا، أننا قد وصلنا أمرنا ورهنَّا به أيماننا. ولذلك سموا القسم يميناً، وربما صرحوا بهذا المعنى كما قال جساس :
سأؤدي حق جاري ويدي رهن فعالي