فقولهم : حلف على أمر، كقولهم : قطع به. وهذا هو الأصل. ثم اختص مثل (القسم) بشدة الفصل والجزم في القول. ولذلك لا يلزمه المقسم به، ألا ترى أنهم إذا عقدوا الموالاة بينهم بأي طريق كانت، سموا حلفاء. وقد علمت طرقه المختلفة التي لم يحلفوا فيها بشيء.
فتبين مما مر بك في هذا الفصل والذي قبله أن القسم لا يلزمه المقسم به فضلاً عن تعظيمه. وتلك هي كلمات قد كثر استعمالها للقسم بحيث إنه لا يلتفت إلى أصول معانيها، ولذلك قدمنا ذكرها.
ثم للقسم كلمات أخر لم يذهل عن معانيها الأصلية، فإذا نظرنا فيها وجدناها أظهر دلالة على أنها ليست في شيء من تعظيم المقسم به، ونذكر هذه الكلمات في الفصل الآتي.
(٨)
بيان أصل معنى القسم إذا كان فيه مقسم به
بعد ما علمت معنى القسم المجرد عن المقسم به، لا يبعد عنك فهم معناه إذا أقسم فيه بشيء. فإنما هو ضم المقسم به مع المقسم كالشاهد على قوله، ولذلك كثر استعمال الواو قبله وكذلك الباء. وأما التاء فإنما هي مقلوبة من الواو كما ترى في تقوى وتجاه، فهذه الحروف للمعية ولضم الشيء بالشيء.
ويؤيد هذا التأويل ما علمت من تاريخ القسم وطرقه. فإنهم لم يقسموا إلا على رؤوس الأشهاد. فكانوا شهداء على أيمانهم لتأكيدها. فإن الرجل يجتنب أن يجعل نفسه كاذباً في عيون الناس.
ويشهد على هذا ما جاء في القرآن في ذكر ميثاق النبيين حيث قال عز من قائل:(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
أي قد أوثقنا هذا العهد بمشهدي ومشهدكم، فلا يسوغ الإنكار بعد ذلك إلا بالفسق.


الصفحة التالية
Icon