وأصل هذا التأكيد أن المرء إذا قال: أشهد به، فقد صرح بأنه يقول بعلمه ومشهده، لا بسماعه. فلا يمكن له العذر إن كذب. ولذلك قال إخوة يوسف عليه السلام:(وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين). واستعمال هذا الوجه في القسم يرى في قوله تعالى:(لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا).
ثم في الشهادة أكبر وجوه التأكيد من جهة أخرى. وهي أن الرجل إذا قال : أشهد أن الأمر كذا، فكأنه قال: أنا أقول هذا كمن يقوم شاهداً على أمر، والكذب في الشهادة أكبر إثماً وأشد ذماً.
ولذلك ورد النهي عنه خاصة في الشرائع، كما جاء في الأحكام العشرة من التوراة. ويشبهه ما ذكر في القرآن في مدح الأبرار (والذين لا يشهدون الزور) على أظهر تأويله.
ثم ترى صريح قولهم في أقسامهم (أنا أشهد) (والله يشهد) (والله يعلم). وهذا في أكثر اللغات.
فإننا نرى الأمم في المشرق والمغرب مع اختلاف كثير في عاداتهم لا يختلفون في أنهم إذا قالوا : الله شهيد على ذلك، أو ما يشبهه، أرادوا به القسم.
قال سيبويه رحمه الله في ذكر لام اليمين :(واعلم أن من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك : أقسم لأفعلن، وأشهد لأفعلن) الكتاب ١/٤٥٤ فصرح بأن (أشهد) معناه اليمين، وأن قولك (أقسم) كقولك أشهد.
فأما معنى تعظيم المقسم به فذلك مما انضم به في بعض الأحوال فهو من عوارض القسم. وسيأتي.
وبعدما علمت حقيقة القسم وأصل مفهومه نذكر لك المفاهيم التي هي فروع على الأصل، وهي الإكرام والتقديس والاستدلال، ونذكرها بالترتيب لتفهم وجوهها وتميز بين معانيها، حتى يسهل لك النظر في أقسام القرآن، فتعرفها على وجهها، وتكون على بصيرة في تأويلها.
(٩)
القسم على وجه الإكرام
للمقسم به، والمتكلم، والمخاطب


الصفحة التالية
Icon