لما كان الصدق من أحب سجايا العرب – لا سيما إذا عاهدوا على أمر، وأعطوا له أيمانهم، وأشهدوا عليه – فإذا صاروا حلفاء، أو عقدوا عقد الجوار، أو نذروا بأمر، أوفوا ذمتهم، وعدوا الكذب فيها بعد القسم عاراً عظيماً وذلة كبيرة، لأنفتهم وللحمية التي جبلوا عليها.
وكان في رهن أيديهم للعقود عندهم آية على أنهم يخاطرون لها أنفسهم، فتضمن القسم مخاطرة النفس كما مر في الفصل السادس.
ولذلك كثر قسمهم بقولهم : لعمري، أي أنا أخاطر على هذا القول حياتي. وربما بينوا هذا المراد كما قالت ريطة بنت العباس السلمي :
لعمري وما عمري عليَّ بهين لنعم الفتى أرديتم آل خثعما
وقال النابغة الذبياني :
لعمري وما عمري عليَّ بهين لقد نطقت بطلا عليَّ الأقارع
وهذا كثير، ومن هذه الجهة انضم مفهوم الإكرام بالمقسم به. فإن المتكلم لا يدل على تأكيد قوله بهذا الطريق إلا إذا أقسم بما يكرمه ويضن به. فهذا أصل هذا النوع من القسم، ثم تجاوزوه إلى قولهم (لعمرك) أو ما يشبهه لما فيه من إكرام المخاطب. كأن القائل أراد أني لا أقسم بعمري بل بعمرك الذي هو أعز وأكرم عليَّ. وهذا هو الأصل، ثم ربما لا يراد به إلا تأكيد القول مع إكرام المخاطب، ولما كان هذا أحسن في التحاور كثر قولهم في القسم : لعمرك ولعمر أبيك، أو وَجَدِّكَ وبعزتك، وأمثالها.
وهذه الكلمات التي ذكرنا كثر استعمالها للقسم فلا حاجة إلى نقل السند لها. ولكن يهمنا في هذا القسم النظر إلى أمور:
الأول: أن المقسم به في هذه الأقسام، وإن كان عند المتكلم كريماً ومضنوناً به، لكنه لا يكون مما يعبده ويقدسه، كما سترى في أقسام دينية نذكرها في الفصل التالي.
الثاني: أنه إذا أضيف المقسم به إلى المخاطب دل على إكرامه، كقوله تعالى:(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) فأكرم الله نبيه بهذا الخطاب. ومنه قوله تعالى :(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك).


الصفحة التالية
Icon