وربما اتفقت أقوام لم تجمعهم أواصر القرابة على خلاف عدو، فعاهدوا على التعاون. فأيما كان من سلم أو حرب، إذا عظم أمرها فزعوا إلى العهد، ولذلك ترى إبراهيم عليه السلام لما هاجر قومه، وسكن في بلاد العرب، ورآه أبو ملك ذا بأس ومنعة، هابه واستعظمه فعاهد به على رسم خاص، لكيلا تكون بينهما حرب، وصارا حليفين بهذه المعاهدة.
والتاريخ شاهد بعظم مكانة المعاهدة في التمدن، حتى ترى الآن اعتصام الأمم العظيمة بها. والعرب كانوا في جاهليتهم أشد الأمم بأساً وألدهم خصاماً، كما أنهم أبرهم ميثاقاً وأوفاهم ذماماً. وكانت الكعبة أعظم معاهدهم. وحرماتها أكبر وازع لهم عن الحرب، فتطفأ نارها في شهور الحج، ويأتون إلى الكعبة من كل فج محرمين راهبين مختلطين في غاية الأمن، كالخرفان بعد أن كانوا أسوداً ضارية. وذلك كله من تعظيمهم للكعبة، حتى إنهم سموا مكة صلاحاً وأم الرحم، فإذا حاولوا توثيق عهد جاءوا إلى هذا المعبد ليقسموا بالله العظيم على مواثيقهم.
ومن شركهم ربما أقسموا عند أنصابهم التي ذبحوا عليها لشفعائهم عند الله الأكبر.
وكانوا يقسمون : إما بإهراق القربان، أو بمسح الكعبة كما ستعلم مما ذكروا في أشعارهم، أو بغمسهم أيديهم في عطر ومسح الكعبة بها، كما ترى في حلف المطيبين الذي كان قبيل البعثة، حين أرادت بنوعبد مناف أن يجمعوا أمرهم، فوضعوا جفنة طيب لأحلافهم عند الكعبة، فغمس القوم أيديهم فيها، ثم مسحوا بها الكعبة، فسموا المطيبين. وكان النبي - ﷺ - وأبو بكر رضي الله عنه منهم. أو بمجرد شهودهم عند البيت وعقدهم أيمانهم لديه.
فهذا أصل قسمهم الديني، ثم توسعوا فاكتفوا بمجرد ذكر الكعبة ومشاعر الحج، كما سترى التصريح به في بعض هذه الأمثلة التي نذكرها.
قال زهير بن أبي سلمى :
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
وقال أيضاً:
فتجمع أيمن منا ومنكم بمقسمة تمور بها الدماء


الصفحة التالية
Icon