ولكنك إذا سرحت النظر في كلام العرب وغيرهم وجدت أنهم ربما أشهدوا بأشياء لم يعبدوها ولا عظموها. وإنما أرادوا الاستدلال بجعل المقسم به شاهداً على أقوالهم. بل ربما تجمع جهة الاستدلال بالأقسام الدينية أيضاً. وسيأتيك ذكره في الفصل الخامس عشر.
وأما هاهنا فإنما نذكر أمثلة القسم الاستدلالي ونوضح مفهومه. فمنها ما قال أبو العريان الطائي يمدح حاتماً الجواد:
قد علموا والقدور تعلمه ومستهل الغرار مطرد
أن ليس عند اعترار طارقها لديك إلا استلالها مدد
ومنها ما قال الراعي :
إن السماء وإن الريح شاهدة والأرض تشهد والأيام والبلد
لقد جزيت بني بدر ببغيهم يوم الهباءة يوماً ما له قود
ومنها ما قال النابغة الذبياني :
والخيل تعلم أنا في تجاولنا عند الطعان أولو بأس وإنعام
ومنها قول عنترة :
والخيل تعلم والفوارس أنني فرقت جمعهم بطعنة فيصل
فقد رأيت في هذه الأمثلة أنهم أشهدوا بالقدور، والمدية، والسماء والريح، والأرض، والأيام، والبلد، والخيل، والفوارس. وليس المراد إلا أنك لو سألتهن ونطقن لشهدن على دعوانا.
ومن هذا الأسلوب ما قال الفضل بن عيسى بن أبان في وعظه:(سل الأرض، فقل : من شق أنهارك وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً).
ولعل هذا الكلام مأخوذ من صحف أيوب عليه السلام، قال ص ١٢ عدد ٧-١٠ :(فاسأل البهائم فتعلمك، وطيور السماء فتخبرك، أو كلم الأرض فتجيبك، ويحثك سمك البحر. من لا يعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا. الذي بيده نفس كل حي وروح كل إنسي).
ومثل هذا ما جاء في صحف موسى عليه السلام سفر التثنية ص ٣٠ عدد ١٩ :( أشهد عليكم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، والبركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك).


الصفحة التالية
Icon