فأراد بهذا الإشهاد أن عهدي هذا بكم لا يؤخذ سراً بل نجعله مشهوداً ومشتهراً، فإن نقضتموه لزمكم عاره دائماً أبداً. فمتى ما أظلتكم السماء وأقلتكم الغبراء جاءتكم اللعنة والعذاب من فوقكم وتحتكم. فضرب السماء والأرض مثلاً لدوام ولزوم ذلة النقض، فكأنه عليه السلام أقام عليهم شاهدين لا يفلتون منهما أبداً وآيتين لا تغربان عنهم.
ومما يجلو الشبهة عن القسم الذي يشهد فيه بما ينطق بلسان الحال أنهم كما أشهدوه بكلمة (يشهد) و(يعلم) أو ما يشبههما، فكذلك أشهدوه بكلمات خصت بالقسم، أو نصت له مثل : واو القسم (لعمري) أو ما يشابههما.
فإن لم يطمئن قلبك بالأمثلة السابقة، فدونك أقسام صريحة بأمور ناطقة بلسان الحال. فمنها قول عروة بن مرة الهذلي :
وقال أبو أمامة يال بكر فقلتُ : وَمَرْخَةٍ دعوى كبير
يستهزئ الشاعر بأبي أمامة على استغاثته بقبيلة بكر. فقال :
هذه دعوى كبيرة، أي ما أصغر من يدعوه لنصره!! فأقسم بشجرة صغيرة لا تؤوي من يلوذ بها، وضربها مثلاً لأضعف الأشياء ملاذاً، ويتضح هذا المعنى مما قال أبو جندب الهذلي :
وكنت إذا جار دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق مئزري
فلا تحسبن جاري لدى ضل مرخة ولا تحسبنه فقع قاع بقرقر
ومنها قسم الهجرس حين قتل جساساً قاتل أبيه، فقال:
(وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه، وهو ينظر إليه ).
فأقسم بهذه الأشياء استدلالاً بها، كأنه قال: فكيف أترك قاتل أبي ؟ وأنا قادر على الكر والفر والطعن والضرب.
فذكر في قسمه ما يصدق دعواه، ويستدل بها على وجوب ما أراد به، ومنها قسم طرفة :
وقربة ذي القربى وجدك إنني متى يك أمر للنكيثة أشهد
أراد أنه كيف لا يشهد مجلس ذوي القربى إذا اجتمعوا لأمر كبير، ولا يراعي منزلة الرحم، وهي عظيمة عندهم، وكانوا ينشدون بالله والرحم، فأقسم بها استدلالاً على لزوم مشهده. ومنها قول الحصين بن حماد يرثي نعيم بن الحارث خليله :


الصفحة التالية
Icon