يعني لم يكرموهم على فوزهم بل على محاماتهم واستمتاتتهم للحرية، فكذلك أنتم وإن لم تفوزوا فقد بذلتم نفوسكم للدفاع عن الحرية.
فانظر في هذا القسم، كيف مثل أسلافهم وفعالهم بين أيديهم ليملأ قلوبهم بالفخار المسلم عندهم، فضرب لهم مثلاً، وجعل حسن مساعيهم شاهداً على حسن مسعاة المخاطبين. وأخرج الكلام مخرج القسم الذي بني على التأكيد.
واشتهر هذا القسم لبلاغته، واستجاده السلف والخلف من الناقدين. ولكن أرى المتأخرين منهم أخطأوا كما أخطأ علماؤنا. فإن لا نجنوس اليوناني الذي نشأ بعد ستمائة من ديماسثنس، وكان معلماً للبلاغة في أثينة، ومشهوراً بغزارة العلم في زمانه، ذكر هذا القسم في كتابه على البلاغة، وقال فيه : إن حسنه في غاية تعظيم المقسم بهم، فإن ديماسثنس جعلهم بمنزلة الآلهة. وأنكر على من قال إن هذا الأسلوب مأخوذ من قول الشاعر يوبولس الذي أقسم بإكليله.
وإني أذكر قسم يوبولس أيضاً ليكون مثالاً ثانياً، ولتعلم أن الرأي الذي أنكره لا نجوس هو الرأي القويم.
(١٣)
القسم على وجه الاستدلال
في كلام يوبولس الشاعر اليوناني
كان من سنن يونان في زمان حريتهم أنه إذا فعل أحد منهم أمراً عظيماً نافعاً لهم عصبوا برأسه إكليلاً تشريفاً لقدره واعترافاً بحقه. وكان الشاعر يوبولس نال منهم هذا الإكرام في حرب مراثن لما أبلى بلاء حسناً.
ثم بعد ذلك اتهمه بعض حساده بأنه ساخط بالقوم، ليزرع بهذه التهمة بغضه في قلوبهم. فأزاح يوبولس هذا الظن عن نفسه بقول ترجمته :
لا وإكليلي الذي نلت لدى مراثنا
لا يراني شامت أضمر سخطاً كامنا
فأقسم بإكليله الذي ناله من أيدي قومه استدلالاً على عدم سخطه بهم كأنه قال : كيف أسخط على قومي بعد أن أكرموني بهذا العز.


الصفحة التالية
Icon