فنرى في هذا المثال – كما رأينا في أمثلة أخر – أن القسم لا يختص بالإله. وبذلك ينهدم ما بنى عليه لا نجنوس رأيه، وتبين لنا أن من جعل قسم ديماسثنس مشابهاً بقسم الشاعر يوبولس أصاب المراد. فإنهما استعملاه على وجه الاستدلال وضرب المثل، وليس المراد منه تعظيم المقسم به. فإن كان المقسم به في نفس الأمر عظيماً فهذا من محض الاتفاق، ولا يتعلق به غرض القسم. محض القسم ساكت عن عظمته. ألا ترى عروة بن مرة الذي مر شعره في الفصل الحادي عشر كيف أقسم بالمرخة وضربها مثلاً لغاية الذلة والضعف.
(١٤)
شرح دلالات القسم الاستدلالي
بعدما وقفت على أمثلة القسم الاستدلالي من النثر، والنظم لدى العرب والعجم، وتبين لك أنه أسلوب خاص من البلاغة، نريد أن نجمع لك في هذا الفصل ما فيه من الدلالات الاستدلالية التي ذكرناها في الفصول السابقة شتاتاً لتفهمها كل الفهم، فإن ذلك من مهمات مباحث هذا الكتاب. ثم تجد زيادة عليه حين نذكر ما في القسم من أبواب البلاغة.
فاعلم أنهم إذا أشهدوا على وجه الاستدلال ربما أرادوا به شدة وضوح المقسم عليه كما ترى في قول الراعي :
إن السماء وإن الريح شاهدة والأرض تشهد والأيام والبلد
يعني أن الأمر بلغ غاية الشهرة والمعرفة حتى إن كل شيء يشهد به، فذهب في آفاق السماء وأقطار الأرض، وجرت به الريح في كل جانب، وبلغ كل بلد، وكفلت الأيام بإبقائه على صفحات الدهر. وغاية التأكيد في أن هذه الأشياء التي لا روح لها تشهد به فكيف بأهل السمع والبصر والنطق.
وهذا بحسب الظاهر مبالغة. ولكنه بني على الصدق، فإن المراد به غاية الشهرة وعموم العلم به. ويشبه ذلك ما مر من قسم موسى عليه السلام حيث أشهد السماء والأرض.


الصفحة التالية
Icon