فإ قال قائل : هب أن أصل القسم هو الإشهاد، ولكنه لكثرة استعماله للتعظيم صار كالمنقول، وأصله كالمذهول. ولذلك نهي عن القسم بغير الله تعالى، فلا يصار إلى الأصل إلا بدليل واضح بين.
قلنا : سلمنا ولكنا لم نذهب إلى هذا المعنى الخاص لأقسام القرآن إلا بدلالة القرآن من وجوه كثيرة. ودونك بيانها :
الأول : ما علمنا من سنة القرآن من استعماله بعض الكلمات مرة للعبد وأخرى لله تعالى. وحينئذ يميز بين وجوهها، حتى لا يكون مخالفاً لجلالة ربنا جلت عظمته، مثل كلمة الصلاة فإنها الدعاء من العبد والرحمة من الله تعالى. وكلمة الشكر فإنها من العبد الاعتراف بالنعمة، ومن الله تعالى قبوله الحسنات من عبده.
وهكذا التوبة، والسخط، والمكر، والكيد، والأسف، والحسرة وغيرها. بل ما من كلمة إلا يميز بين وجوه معانيها إذا استعملت لله تعالى. ويؤخذ بأحسنها ويترك ما لا يليق بذاته المقدسة. وقد علمنا الوجوه الكثيرة للقسم، فحملناه على وجه يليق بجلالة ربنا، وأخذنا بما هو (خير وأحسن تأويلاً).
والثاني: ما تهتدي إليه من حمل النظير على النظير وتفسير الآيات بعضها ببعض. فإنك ترى القرآن يذكر الأمور الدالة تارة على أسلوب القسم بها، وأخرى على أسلوب الآية والعبرة. وكلها إشهاد لمن يتفكر فيها. قال تعالى:(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
ومثل هذا كثير. فيذكر الله تعالى آياته ويحتج بها.